ملخص الدرس / الثالثة ثانوي/فلسفة/الأخلاق الموضوعية و النسبية/الأخلاق بين النسبي و المطلق

المشكلة الأولى

هل يكفي القول بأن الأخلاق تترنح بين الثوابت و المتغيرات حتى نحيط بطبيعتها؟ و بتعبير آخر، هل القول بأن الأخلاق في جوهرها واحدة، وفي واقعها المادي متعدّدة، كفيل بتحديد طبيعتها؟ و بالتالي، على أي أساس نقيم القيم الخلقية؟

مقدمة: طرح المشكلة

I- هل يمكن القول بأن الأخلاق واحدة لمجرد قيامها على أساس من المبادئ و الثوابت؟

* عرض وضعية مشكلة

- أولا: وحدة الأخلاق في قدسيتها.

- ثانيا: الأخلاق و مطلقية العقل.

II- ألا يمكن الإعتقاد بأنها متعددة بتعدد مشاربها، متغيرة بتغير بيئاتها و عصورها؟

ملاحظة وضعية مشكلة

-أولا: نسبية القيم من تنوع المجتمعات.

- ثانيا: السعادة في اللذة و لبخير في تعدد المنافع.

III- لكن أليس من الموضوعية اعتبارها ثابة في مبادئها ، متطورة في تطبيقاتها في آن معا؟

ملاحظة وضعية مشكلة

- متغيرات الأخلاق ضمن ثوابتها

خاتمة: حل المشكلة

 

مقدمة

طرح المشكلة:

إن من أقدم الإهتمامات في التاريخ البشري الأخلاق، وهي في الجملة، قيم وأفعال تقوم على أحكام تقديرية لا تصبو إلى وصف ما هو كائن، و إنما إلى التوجيه نحو ما ينبغي أن يكون عليه سلوك الإنسان ، وغايتها من هذا السلوك التقويم و الإرشاد، ومعنى ذلك أن الفعل الخلقي يستند دائما إلى قيمة خا=لقية تمثل ما يجب أن يكون عليه هذا الفعل وعلى أساسها يكون مقبولا أو مرفوضا. فهل يكفي القول بأن الأخلاق تترنح بين الثوابت و المتغيرات حتى نحيط بطبيعتها؟ و بتعبير آخر ، هل القول بأن الأخلاق في جوهرها واحدة، و في واقعها المادي متعدّدة، كفيل بتحديد طبيعتها؟ و بالتالي، على أي أساس نقيم القيم الخلقية؟

 

عرض وضعية مشكلة

I- هل يمكن القول بأن الأخلاق واحدة لمجرد قيامها على أساس من المبادئ و الثوابت؟

لنتابع الحوار التالي بين الطالبين سليم (س) و عز الدين (ع) حول موضوع الأنترنت:

- (س): إني أرى أن الحاسوب و تقنياته، ومن خلال الإتصال عبرالأنترنت، يقدم منفعة من الأهمية بمكان للفرد في مستويات متعدّدة.

- (ع): أمّا أنا فلا أجد فيه أية منفعة، بل ضررخ أكثر من نفعه، لأن الكثير من مواقعه تمس بقيم الدين و ثوابته.

- (س): لكن، غلى الرغم مما تتحدث عنه، فقد أضحى ضرورة اجتماعية من خلال انتشاره في المؤسسات القائمة عليه.

- (ع): إن ثقافة المجتمع أيضا لا بد أن تؤسس المفاهيم السلوكية السليمة في محاربة تلك الآفات اللاأخلاقية ... أليس كذلك؟

- (س): أجدني متحفظا على بعض آرائك، فالفرد العاقل له قدرة كبيرة على أن يميز بين خير الأمور و شرّها في اقتناء برامج الأنترنت المفيدة له.

تحليل الوضعية المشكلة

يتضح من خلال هذه الوضعية التي لم ينته فيها المتحاوران - على ما يبدو- إلى اتفاق، ورود ألفاظ مفتاحية مهمة: (المنفعة)، (المجتمع)،(الدين)، (العقل) هي بمثابة معايير استند إليها المتحاوران، و كل معيار يرتبط دون شك بقيمة معينة من خلال تقدير فائدة أو مشروعية برامج الأنترنت:

* فالطرف الأول (س) أسند حكمه المبرّئ للأنترنت في البداية إلى معيار المنفعة الفردية، معتقدا أن ما تقدمه له هذه الشبكة العالمية هو بمثابة الخدمة الجليلة التي لا تقدر بثمن، و لما اصطدم باحتجاجات محاوره، وجد أنه في حاجة إلى تعزيز قناعته بمعيار المنفعة الإجتماعية، ثم بمعيار آخر أهم وهو العقل في آخر الحوار.

* و الطرف الثاني (ع) اعتمد في حكمه المدين للأنترنت على مبادئ العقيدة أولا، ثم ثنّى عليه بمعيار اقتبسه من محاوره وهو ضرورة المحافظة على مبدأ الصالح العام في المجتمع من خلال التنشئة التربوية و النوعية الثقافية.

و بهذا نجدهما ينطلقان من حكم وجودي واحد، لكنهما ينتهيان متعارضين في تحديدهما لقيمة الأنترنت، و اختلافهما في التقييم بدفعنا دفعا إلى التساؤل: ما هي القيمة هامة؟ وما وجه الحاجة إليها في الحكم على السلوك البشري؟ وإذا كانت تستمد مشروعيتها من ثوابت مطلقة، فما طبيعة هذه الثوابت؟

 - القيمة و دلالتها:

إن القيمة إجمالا تتعلق بالوجود من حيث هو مرغول فيه لذاته، والفلسفة تتناول قيم الأشياء و تحللّها عن طريق نظرية القيم (axiologie)التي تبحث في طبيعتها و أصنافها و معاييرها من حيث هي باب من أبواب الفلسفة العامة التي ترتبط بالمنطق و الأخلاق و الجمال..فإذا فسّرت القيم بنسبتها إلى الصور الغائية المرتسمة على صفحات الذهن كان تفسيرها مثاليا، وإذا فسّرت بأسباب طبيعية أو نفسية أو اجتماعية كان تفسيرها وجوديا.

أمّا في الأخلاق فإن القيمة ترتبط بما يدل عليه لفظا الخير والشر كمعايير ثابتة أو متغيرة، ةعلى ضوء هذه المعايير يتحدد أساسها في الحكم على السلوك الإنساني. و لنتفحص أولا، طبيعة و أهمية و أبعاد معيارين من المعايير الأربعة التي بيّناها في تحليل الوضعية المشكلة و هما: العقيدة و العقل بوصفهما مما يصنف على أنه من أسس القيم الخلقية الثابة لا المتغيرة.

أولا: وحدة الأخلاق في قدسيّتها:

إن الدين إلزام متعال، إلهي، و مقدس، و بناء على هذه الحقيقة نتساءل: ألا يجعلنا ذلك نقرّه كتشريع سماوي للمبادئ و المعاملات الأخلاقية؟ أولم تكن كل العقائد-ولا تزال- متضمنة بطبيعتها لمناقب الإنسانية ومثلها العليا؟

إإن الدين بمفهومه العام هو الإعتقاد العاطفي بوجود مبدأ إعلى مفارق للطبيعة، و يدفع هذا الإعتقاد إلى أداء واجبات تجاه هذا المبدأ (الله). و يعرف عموما بأنه "وضع إلهي يرشد إلى الحق في الإعتقادات و إلى الخير في السلوك و المعاملات". وانطلاقا من إرثنا الحضاري، نجد الإسلام - كعقيدة و شريعة- هو دعوة إلى الأخلاق و الخير ، فجاء في القرآن قوله تعالى : " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و أولئك هم المفلحون". وفي الحديث الشريف قوله (ص): "إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

و بهذا يتضح لنا أن الدين يشكل بعدا أخلاقيا نستند إليه في تقويم أفعالنا الخلقية وفق قيم العمل بالخير و الفضيلة والإنتهاء عن الشّر و الرذيلة، فابن حزم مثلا، لا يرى شيئا حسنا لذاته، و لاشيئا قبيحا لذاته، ولكن ما سماه الله تعالى حسنا فهو حسن، وما سماه الله تعالى قبيحا فهو قبيح. فالشرع هو المكيف للأعمال حسنا أو قبحا، و الخير و الحسن ما أمر الله به، و الشر و القبح ما نهى الله تعالى عنه. ومعنى هذا أن معيار الخير و الشر عند ابن حزم يرتد إلى الإرادة الإلهية.

و في الفلسفة الإسلامية نجد المعتزلة من المتكلمين ينطلقون من هذه الحقيقة، و يدركون أن الشريعة الإسلامية هي مصدر القيمة الخلقية، إلا أنهم يرون بأن الدين جاء مخبرا عمّا في العقل، أي أن العقل هو قوام الفعل الخلقي، فغرض الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر مقرّر في العقول وفي الدعوة إلى الواجب الخلقي، ذلك أن وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر تحقيقا للقيمة الخلقية يعلم عقلا، فاعتبروا القيم الخلقية مرتبطة بطبيعة الإنسان العاقلة، لأن العقل الإنساني بإمكانه أن يفرق بين الحسن و القبح و الخير والشر، و الإنسان حرّ في اختيار فعل أي منهما، و يحسب هذا الإختيار يكون مسؤولا أمام الله، ومن ثمة يجازى عن أفعاله. فالمعتزلة يعتبرون أن الفعل خير أو شر في ذاته، و بإمكان العقل أن يدرك أن الحسن محمود و أن القبح مذموم، وما الشرع إلا مخبر عمّا يدركه هذا العقل.

أما الأشاعرة فيذهبون إلى نقيض ما يذهب إليه المعتزلة، ويعتقدون بأن العقل لا يملك هذه القدرة على التمييز بين الخير و الشر ، فالخير ما أمر الله به و الشر ما نهى الله عنه. فالحسن ما ورد الشرع بالثناء على فاعله، و القبح ما ورد الشرع بذم فاعله، و الحسن و الشر يوجبهما الشرع لا العقل. لذلك فالأشاعرة ينفون أن يكون الفعل خيرا أو شرا في ذاته. والشرع مثبت للقيمة الخلقية في الأمر و النهي لا مجرد مخبر عنها. وما دور العقل إلا الخضوع لتعاليم الشرع، لأنها صادرة عن إرادة الله المطلقة، و لا اختيار لإرادة الإنسان أمام الإرادة الإلهية، ولا يلزم عنها ظلم للناس كما يعتقد المعتزلة، لأنها صادرة عن إله رحيم و أدرى بالطبيعة البشرية و أرعى لمصالحها.

إن التأسيس للأخلاق على أساس ديتي له ما يبرره ، باعتبار أنه تشريع مطلق و مقدس، ولكن في ذات الوقت إته يحمل دعوة لإعمال الفكر و التدبر في النصوص الشرعية، و هذا ما يتضح بصورة جلية في مراعاة الأصول وفي الاجتهاد في آن معا، ترشيدا لطبيعة الإنسان الغريزية، ومن أجل إدماج الفرد عضوا صالحا في الأسرة و المجتمع.

ثانيا: الأخلاق و مطلقية العقل:

إذا كان العقل، فضلا عن الدين، هو أهم ما يميز الإنسان ، و يرفعه فوق عالم الحيوان ، فهل يصلح أن يكون مرجعا لجميع قيمنا الخلقية؟

إن الإتجاهات العقلانية ترجع حقيقة القيم الخلقية إلى العقل، أي إلى حركة العقل طبقا لحقيقة بديهية ثابتة موجودة في ماهية كل كائن، وماهية الشيء هي التي تفسر قيمته، وهذه الماهية ثابتة لا تتأثر بالزمان، لأنها مطلقة. فهي صادرة عن مبادئ عامة و يقينية لخلوها من كل مرمى أو منفعة ذاتية أو اجتماعية، وغايتها تحمل في ذاتها. و الفعل الأخلاقي لا يتم إلا بهذا المبدأ العام. فحقيقة السؤال الخلقي العقلاني ما هو الخير إذا لم يكن هو الغاية؟

إن القيمة الخلقية للفعل تكمن في مبدأ الفعل لا في نتائجه. فالقول أن القتل و الخيانة و الكذب هي أفعال ذميمة و مستهجنة ينبني على أنها تحمل في ذاتها معنى الرذيلة،  ونحوه القول أن الأمانة و الصدق و الإحسان أفعال حميدة و مستحسنة لأنها تحمل في ذاتها معنى الفضيلة. و عليه تدرك القيمة الخلقية عقلا على اعتبار أن الوجود تابع للقيمة.

و يعتبر أفلاطون من الذين يعتقدون بوجود علم أو حكمة سامية غرضها الأقصى هو الخير المطلق، و معرفة هذا العلم و في كل ما نرغب فيه عن طريق العقل ، و ذلك أن الخير عنده هو القيمة العليا أو قيمة القيم التي نبحث عنها، لأننا نرى أو لا وجود و لا كمال و لا سعادة إلا بها. يقول أفلاطون : "إن الخير فوق الوجود شرفا و قوة". وهذا لا يعني أن الخير لا وجود له، و إنما يعني أن وجوده أسمى كحقيقة مثالية من الوجود الواقعي، لأنه إدراك عقلي لقيمة الخير، و تقسّم أفعال الناس إلى القوة العاقلة و القوة الشهوانية و القوة الغضبية، وأن أكمل صورها العقل لأنه المدرك للعفة و الفضائل، وأن قوى النفس الثلاثة تدبّرها ثلاث فضائل: الحكمة: وهي فضيلة العقل، و العفة: وهي فضيلة القوة الشهوانية، و الشجاعة: وهي فضيلة القوة الغضبية، و الحكمة رأس الفضائل كلها لأنها تحد من طغيان الشهوة و الغضبية معا، و إذا انقادت الشهوانية للغضبية و الغضبية للعقل تحقق التناسق و التناسب في النفس، وهي الحالة التي يسميها أفلاطون بالعدالة. 

وفي سيلق هذه الفلسفة الأخلاقية ذاتها، نجد كانط يذهب إلى أن القواعد الأخلاقية مصدرها العقل لا التجربة، وهذه القواعد تتصف بشروط أوّلية لمعرفة العالم الحسّي، فالعقل هو الذي يمدّنا بمعنى الواجب. ويقوم هذا الواجب على الإرادة الحرة، وهي إحدى المسلمات التي لابد منها للأفعال الأخلاقية فضلا عن ثلاث قواعد أساسية:

 - القاعدة الأولى: "افعل كما لو كلن على مسلمة فعلك أن ترتفع إلى قانون طبيعي عام". ذلك أن الشخص لا يحيل المبدأ الخلقي الذي انطلق منه في عملهالخلقي كالمنفعة إلى قانون أخلاقي يعمّمه على جميع الناس، فالإنسان المخلص لغرض نفعي ما، وكان منطلقه مبدأ منفعته الشخصية، لا يحول المبدأ الأخلاقي إلى قانون خلقي قابل للتعميم، و إلا أصبح الإخلاص ضربا من ضروب العبث، لأن هذا التعميم يوقعنا في التناقض الذي لا يقبله العقل السليم، ولا يتوافق مع مبدأ الواجب.

 - القاعدة الثانية: "افعل الفعل بأن تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان، بوصفها دائما وفي نفس الوقت غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة". فالشخص الذي يعطي وعودا كاذبة إنما يتخذ الآخرين مجرد وسائل من أجل تحقيق وغبات و منافع معينة من غير أن يلتفت إلى أن لهم حقوقا بصفتهم كائنات عاقلة أو غايات في ذاتها. ذلك لأن لزوم فلسفة من هذا القبيل ينجم بمنتهى الوضوح من الفكرة العامة للواجب، ومن القوانين الأخلاقية. فيجب أن يوافق الناس قاطبة على أنه لكي يكون لدينا قيمة أخلاقية ، نعني لكي نرسي دعائم الإلزام، ينبغي أن يتضمن القانون في ذاته ضرورة مطلقة. و يجب ألا تقتصر مشروعية الأمر التالي: "يجب أن لا تكذب على بعض الناس بحيث لا تعبأ سائر الكائنات العاقلة به، كذلك جميع القوانين الأخلاقية الأخرى"، وهذا يعني أنه ليس هناك قوانين أخلاقية خاصة، بل هي واحدة لجميع البشر، فهي واحدة في مصدرها لأنها من تقرير العقل العملي، وهي واحدة في جوهرها لأن أي قانون لا يكون أخلاقيا إلا إذا اتصف بالكلية و الإرادة و الغائية، وذلك ما يجعل القانون الأخلاقي متضمنا لمبدأ الضرورة المطلقة.

 - القاعدة الثالثة: "اعمل بحيث تكون إرادتك باعتبارك كائنا عاقلا هي بمثابة تشريع عام". و يقتضي ذلك ضرورة الخضوع للقانون باعتبارنا مشرّعيه، و مادامت إرادتنا هي بطبيعتها خاضعة للقانون، فإنه لابد لهذه الإرادة من حيث هي غاية في ذاتها أن تكون هي مصدر هذا القانون أو التشريع، فيكون خضوعها له ليس سوى خضوع لنفسها، و بالتالي ترتفع قيمة الإنسان باعتباره غاية في حد ذاته، لأن خضوعه للقانون الأخلاقي يرجع إلى أنه مشرّعه في الوقت ذاته. والكائن الناطق يدرك بعقله القانون و يتصرف بموجب إدراكه هذا و لا يفرض الواجب أو الإلزام الأخلاقي نفسه على إرادته، لأنه إلزام تمارسه الذاتعلى نفسها قصد الخضوع لأوامر العقل لا لشيء إلا لأنه عقل، أي الواجب من أجل الواجب الذي تسمو فيه إنسانية الإنسان و حريته في مقابل قانون الطبيعة الذي يخضع للحتمية. فالواجب إذن هو ضرورة القيام بفعل احتراما للقانون الأخلاقي وحده، ذلك لأن القيمة الأخلاقية للفعل تكمن في مبدأ الإرادة بصرف النظر عن الغايات التي يمكن تحقيقها. 

إن هناك مبدأ واحدا يعتبره الناس خيرا-في نظر كانط- دون تحفظ هو الإرادة الخيرة، أما لذات الحياة و منافعها فلا تعتبر خيرات بذاتها لأنها وسائل يمكن أن تستخدمها الإرادة في الخير كما في الشر، و أن الإرادة الخيرة تعمل طبقا لمبدأ الواجب العقلي. ومن جهة أخرى فإنه لا يمكن أن تكون كل إرادة خيّرة، كما لا يمكن للإرادة الخيرة أن تكون خيّرة دفعة واحدة ، ومن ثمّ وجب إرجاع هذه الإرادة الخيرة التي تعمل طبقا لمبدأ الواجب العقلي إلى مبدأ قبلي سابق عن التجربة، فتحرر من الدوافع و الرغبات، و بالتالي تكون الأخلاق منزهة عن كل غرض ذاتي، فعندنا نقول: "كن أمينا لتنال ثقة الآخرين"، فهذا فعل غير مطابق للواجب، بل هو مرتبط بغرض و غير منزّه عن المصلحة الذاتية، أما في قولنا : "كن أمينا"، فهذا فعل أخلاقي لأنه أمر مطلق غير مشروط لا برغبة و لا برهبة أو تعاطف، لأن العاطفة لا تكون مصدرا للقانون الأخلاقي، اللهم إلا عاطفة الاحترام، أي احترام الواجب الخلقي، و بذلك تتصف القوانين الأخلاقية بالصورية و العمومية و المطلقية فحسب بصرف النظر عن حدود الزمان و المكان، وعن الظروف و الدوافع  والملابسات مهما كانت طبيعتها.

إن هذا الطرح لا يخلو من صواب، على اعتبار أن اختلاف القيم الأخلاقية من جهة الطبيعة، يؤثر سلبا على قيمتها من حيث هي أخلاقية، لأن هذا من شأنه أن يوقعنا في الريبية إذا انقلب الخير و الشر من مجتمع إلى آخر ، ومع ذلك فإن الأخلاق بالمنظور العقلي متسامية و غاية في الصورنة و التجريد، إذ هي منفصلة عن التجربة الواقعية للإنسان، و تقصي العواطف و الميول لديه، مع أن الواقع يقرّر في كثير من الأحيان أن السلوك الذي ينبع من الوجدان قد يكون أنبل من ذلك الذي ينبعث من العقل بأحكامه المطلقة دون اعتبار للظروف الاستثنائية.

و نخلص إلى أن التسليم بكون الأخلاق واحدة في جوهرها على نحو ما بيّنه أنصار الدين و العقل لا يحّل المشكل، لأن ذلك لا يفسر تعدّدها و تنوعها الذي يفرض نفسه في الواقع، مع العلم أن كل منظومة أخلاقية تزعم لنفسها الصواب و تعتبر نفسها أخلاقا إنسانية.

ألا يمكن الإعتقاد بأنها متعدّدة بتعدد مشاربها، متغيرة بتغير بيئاتها و عصورها؟

II-ملاحظة وضعية مشكلة

إذا كان برّ الوالدين كقيمة أخلاقية لدى المسلم، يتطلب رعاية الابن لوالديه، فلا يقول لهما أف، و لا ينهرهما، بل يتفانى في خدمتهما إلى آخر رمق و خاصة في الكبر، فإن مثل هذا السلوك ليس له ما يبرّره مثلا عند بعض سكان القطب الشمالي في تصرفهم مع آبائهم، حيث يمنح الإبن والده-إذا تقدّمت به السن- قربانا للدببة كي تفترسه، معتقدا أنه بذلك يعجّل وصوله إلى الجنة!  فأيّ التصرفين خير؟ و أيهما شر؟ و هل يعود كلاهما إلى ظروف المجتمع أم طبيعة الفرد؟ و إذا قبل التصرفان على أنهما خير بالنسبة إلى فاعله، وعلى أنهما شر في نظر الآخر، فهل يفيد ذلك أن الأخلاق متعدّدة بطبيعتها؟

إن هذا يقودنا مباشرة إلى بسط فكرة التعدّد الأخلاقي، ويضعنا في مواجهة التفسيرين السوسيولوجي و النفعي للسلوك البشري، بما في ذلك القيم المرجعية لهذين التفسيرين.

أولا: نسبية القيم من تنوع المجتمعات:

إن الإنسان لا يعيض لذاته، ولا في عزلة عن غيره، بل إن أفعاله تؤثر في الآخرين، كما يتأثر بأفعالهم إن كانت خيرة أو شريرة. و انطلاقا من هذه المسلمة ، يؤكد الإجتماعيون بأن الأخلاق ظاهرة اجتماعية تتميّز بشروطها الموضوعية، و يجب دراستها دراسة وضعية قائمة على ربط الظاهرة بعواملها. فالواجب الإجتماعي إلزام وضعه المجتمع، وعلى الفرد أن يمتثل لهذا الواجب باعتباره عضوا في جماعة، و يتم ذلك عندما يتخلى الفرد عن أنانيته و يتحلى بالغيرية. فالأمر لا يتعلق بتأسيس الأخلاق كما يزعم العقليون، بل بالخضوع لالتزامات مفروضة و محددة مسبقا من المجتمع، و لهذا فالقيم الخلقية نسبية و متغيرة في الزمان و المكان.

و ضمن هذا الإتجاه يعتقد دوركايم أن الوقائع الإجتماعية هي مظاهر خارجة عن ذات الفرد و تمتاز بخاصيتين: الأولى كونها خارجية، والثانية كونها متسامية عن ضمائر الأفراد، و الواقعة الأخلاقية - كأيّ واقعة اجتماعية- خارجة عن ضمير الفرد ، لأنها من إنتاج المجتمع ، و بعض العادات الإجتماعية يشارك فيها كل الناس مع أن البعض منهم يستنكرها، ومع ذلك يكره الفرد على الخضوع لها. و الفرد مدني يعيش في وسط يتعهده بالتربية و التثقيف فينمّي استعداداته الفطرية و دوافعه النفسية و ملكاته العقلية، لذلك ينشأ الفرد مدينا للجماعة بكل شيء، وما عليه إلا أن يمتثل لنظمها و عاداتها، و مثلما أن الفرد لا يستطيع أن يكوّن أخلاقا تكون ثمرة لهواه الفردي، فإن القيمة الأخلاقية ترتبط بأسباب غير شخصية لأنها تستمد من المجتمع.

إن الواقعة الأخلاقية، تتحدّد بطابعها الإلزامي، و بالجزاء الذي يصحبها، و يتضح ذلك في معاقبة الجماعة للفرد في حال مخالفته لأوامرها، و القيمة الخلقية التي تتضمن القابلية و الإرزام لا يوجد لها مصدر إلا المجتمع فتعبّر عن نفسها في الوعي الفردي من جهة، وفي موضوع قيمي يمنح الأفراد مثلا أعلى يطمحون إليه من جهة أخرى. 

لكن ، و على النقيض مما سبق، فإن تصارع اللذات قد يؤدي إلى ألم و شرّ، و أنها تحمل في طيّاتها ما هو دنيء ووضيع فلا ترقى إلى شرف و سمو المثل و المناقب الأخلاقية في شيء، وقد بيّنت التجربة أن اتباع السلوك الأخلاقي باستهداف منفعة مهما كانت مفيدة و عامة لا يؤدي إلى تحقيق الخيرية إلا قليلا، كما أن ما يحقق منفعة معينة قد يسم بقيم المجتمع الأخلاقية. و عليه فإن هذا الإتجاه، قديمه و حديثه، حينما جعل من اللذة و المنفعة (و هما من الإنفعالات المتغيرة و الدوافع المتقلبة) غاية للأفعال الإنسانية و مقياسا لخيريتها، إنما جعل الأخلاق متغيّرة و نسبية، شأنه في ذلك شأن اتجاه الأخلاق الاجتماعية، فيما الأخلاق تحتفظ -كما يدل تاريخها- بقدر من التوافق العام و التصور المشترك. ومن هنا فاللذة و المنفعة معا، كمعيارين ذاتيين متغيّرين، لا يمكنهما أن يكونا أساسا للأخلاق.

و يتفق أصحاب النزعة الاجتماعية على أن فضل العباقرة و الفنانين و المصلحين الإجتماعيين ينحصر في أنهم أقدر من غيرهم على فهم اتجاه العقل الجمعي و توجيه الأفراد إلى هذا الإتجاه، فهم لا يخترعون جديدا، و إنما الذي يجدّد و يغير و يخترع هو المجتمع أو العقل الجمعي.

و يذهب ليفي برول إلى استبعاد المفهوم المعياري للأخلاق معتبرا الأخلاق ظاهرة اجتماعية لها قوانينها، و يدرس علم الأخلاق الأفعال الإنسانية كما تلاحظ في الواقع، وليست القيم سوى مظهر للجماعة تابع لمعتقداتها و علومها و فنونها و علاقاتها بالجماعات الأخرى، و لهذا اختلفت الأخلاق من مجتمع إلى آخر ، فلا توجد أخلاق بل توجد عادات خلقية، وهكذا ينظر إلى الأخلاق على أنها وصفية تدرس و تهتم بما هو كائن ، لا بما ينبغي أن يكون ، وهي ليست مبادئ ثابتة و مجردة، بل سلوكات متغيّرة يمكن ملاحظتها.

و نستنتج من ذلك أن القيم الأخلاقية تمنح للفرد من المجتمع بواسطة التربية، وما الضمير الأخلاقي الفردي إلا صدى لأحكام الوعي الجمعي و إرادته، والخير و الشر من حيث هما قيمتان أخلاقيتان تتحددان بمدى اندماج الفرد في الجماعة أو عدم اندماجه، فالإندماج هو مقياس الخير، وعدم الإندماج هو مقياس الشر، لأنه -كما يقول دور كايم-".. ليس هناك سوى قوة أخلاقية واحدة تستطيع أن تضع القوانين للناس : هي "المجتمع" . و يلزم من هذا أنهلا توجد أخلاق واحدة و عامة، بل "لكل شعب وفي مرحلة معينة من تاريخه نجد أخلاقا، و بهذه الأخلاق المهيمنة تمارس المحاكم عقوبتها، و يمارس الرأي العام حكمه، فلكل مجموعة معين أخلاق خاصة". و الأخلاق مرادفة للعادات الإجتماعية ".. و إذا كانت كل العادات الإجتماعية ليست أخلاقا فإن جميع الممارسات الأخلاقية هي عادات اجتماعية، ومنه فإن أي شخص يتمرد على العادات قد يكون متمردا على الأخلاق أيضا".

إن هذه الأخلاق التي نادى بها الإجتماعيون أخلاق مغلقة على حد تعبير برغسون، لأنها لا تخرج عن إطار المجتمع الواحد، وفي نفس الوقت نجد الأخلاق المفتوحة وهي ليست وليدة الإكراه الاجتماعي و يجسدها المصلحون الاجتماعيون و العلماء و رجال الدين الذين يصنعون الضمير على أساس الوعي الأخلاقي لا على أساس التقليد و الاتباع، وهي تتعدى حدود المجتمعات لتصير أخلاقا إنسانية و عالمية. وقد لا نختلف في أن هذا التفسير من وجهة النظر العلمية يعد مقبولا باعتبار العلم لا يتجاوز حدود وصف الظواهر، لكن الأخلاق ليست مجرد ظواهر-وإن كانت ترتبط في الممارسة بجملة من العادات الاجتماعية- بل هي قيم، و الفيلسوف على خلاف العالم الذي يكتفي بالوصف، مدعو دائما للنقد و الحكم. ومن جهة أخرى فإن هذا التفسير الإجتماعي ينظر إلى جميع الأخلاق على أنها وسائل لا غايات، وهو الأمر الذي يتعارض مع جوهر الأخلاق التي وجدت أساسا لترتفع بالإنسان كي يحقق كماله البشري، ومن جهة ثالثة فإن أي دراسة تجريبية للأخلاق هي إساءة للأخلاق".. وليس هناك إساءة يمكن أن تأتي من الإنسان في حق الأخلاقية أشد من رغبته في جعلها مستمدة من أمثلة ، ذلك لأن كل مثل يعرض في هذا الشأن يجب أن يصدر عليه الحكم قبل ذلك طبقا للمبادئ الأخلاقية".

ثانيا: السعادة في اللذة و الخير في تعدد المنافع:

هل يمكن أن يكون مبدأ اللذة معيارا تقوم عليه القيمة الخلقية؟ وهل يمكن أن تقوم الأخلاق على أساس تجربة المنفعة؟ وهل كل ما هو نفعي أخلاقي؟

1- السعادة في اللذة: إن الإتجاهات النفعية تؤسس للفعل الخلقي على أنه منسجم مع ما هو مشتهى، وأنه إرضاء للطبيعة البشرية من منطلق أن اللذة و الألم هما الكيفيتان اللّتان تتحدد وفقهما القيمة الأخلاقية، فكل ما هو خير فيه لذة ، وكل ما هو شرّ فيه ألم. و اللذة هي إدراك الملائم من حيث هو ملائم للذّات، و أمّا الألم فهو إدراك المنافي من حيث هو مناف للذات. وتعتبر اللذة كيفية نفسية أولية لا تعرف إلا بنسبتها إلى شروطها وهي إمّا جسمانية أو نفسانية.

و تتفق كل النظريات الكلاسيكية على اعتبارها الغاية الأخلاقية المنشودة من وراء الأفعال الأخلاقية ، والإنسان بطبيعته يرغب في اللذة و يتجنب الألم، فاللذة هي الكيفية الوحيدة التي تصبح بمقتضاها التجربة الإنسانية ذات قيمة، و بالتالي تكتسي صبغة أخلاقية، و معنى هذا أن الفعل الأخلاقي هو ذلك الفعل الذي يفضي بالضرورة إلى نتائج سارة، ولا يعني أن اللذة هي الخير الأوحد، بل اللذة هي الغاية القصوى للحياة، و الحياة ليست إلا مجموعة أفراد لكل منهم لذّته، وعليه "إشباعها لا تعديل مجراها أو إبطال مغعولها". 

لكن اللّذة المعدّلة (عند منظري الأخلاق اليونانيين من أتباع أبيقور) هي التي تمثل طبيعة القيمة الأخلاقية ، و حجّتهم في ذلك أنه إذا عجز الإنسان عن تحقيق اللذة تألم، و إذا تألم كان شقيا و العكس صحيح، فتحقيق سعادة الإنسان تتوقف على مدى إشباع اللذات.

إذ على الرغم من كون اللذة، هي الغاية القصوى التي ينشدها الإنسان إلا أن فكرة اللذة لا تكون دائما خيرا، ذلك أن هناك لذات تجر وراءها آلاما، فمن الواجب تجنب اللذات التي تجر هذه الآلام لأنها سبل سيئة للسعادة، و يمكن تحويل اللذة الحسية العاجلة إلى نوع من السعادة النفسية بإدراك أن اللذة ليس لها صبغة مطلقة، بدليل أنها تقاس دائما بالألم. وقد رأوا وجوب اتباع اللذة من حيث شدّتها، أي جلبها لأكبر قدر من المتعة للإنسان و استمرارها مدى الحياة. و اللذة التي تكون بعيدة أفضل من اللذة الآنية، و بذلك أعلوا من شأن اللذات المعنوية، و أحالوا مذهب اللذة إلى مذهب في المنفعة يرى أن المثل الأعلى في طلب أكبر قسط من اللذات يبقى ملازما مدى الحياة، و رفضوا التماس التحرر من المستقبل بالإبقاء على لذة الحاضر، إذ بدا هذا التحرر في نظرهم عبودية للحاضر، فحرية الإنسان كقيمة لا تقوم إلا بإلتماسه غاية تكون هدفا للحياة كلها. 

و تعتبر الصداقة و الحكمة و الفضيلة تهذيبا للذة، لأنها تتضمن التحكم في الغرائز الدنيا، بل أن الفضيلة مظهر من مظاهر ضبط النفس و تغليب القيم العليا.

2- الخير في تعدد المنافع:يتضح إذن أن اللذة تودي مباشرة إلى تصور أناني للغاية الأخلاقية ، وتنطلق من الشعور الذاتي الخاص نحو تأسيس القيم الأخلاقية . ونظرا لضيق هذه النظرة فإنه ينبغي الاستعاضة عنها بمبدأ شبيه هو المنفعة بوصفه مبدأ يحقق المصلحة الجماعية و لا يقتصر على النوازع الفردية، و بوصفه بقيم مفهوما للخير على أسس تجريبية علمية و هذا تحت تأثير التطور العلمي و الإجتماعي و الإقتصادي الذي ميّز العصور الحديثة.

و الخير الذي يتحدث عنه اتجاه المنفعة شيء محسوس قابل للحساب و التقدير الكمي، لذلك يحاول بناء الأخلاق على ما أسماه بحساب اللذات، و الشيء المهم كم اللذة و مقدارها و ليس كيفها و نوعها، بحيث يصبح ميزان اللذات و الآلام قائما لصالح اللذة، فتضمن الموازنة بين اللذة و الألم لصالح اللذة.

و لكن من جهة أخرى، يستحسن ألّا يقتنع المرء بالمفاضلة بين اللذات الكمية الخالصة، و إنما عليه أن يتجاوزها إلى التفرقة بين بعضها و البعض الآخر تفرقة في الكيف، ومن ذلك ضرورة التفريق بين لذات الحس و لذات العقل، لأن اعتبار اللذة غاية للحياة تقدير لا يشرف كرامة الإنسان ، و لهذا لابد من الإرتفاع بلذات العقل والوجدان فوق لذات الحس العاجلة، وإن كان تقدير اللذات الحسية لا يتنافى مع منطق المذهب النفعي، والإنسان يتّجه بطبيعته إلى اللذات التي تسد مطالب ملكاته العليا، و يؤثرها على اللذات التي تشاركه فيها جميع الحيوانات، ".. ومن الناس من يؤثر الاستماع إلى الموسيقى و الاستمتاع بالأدب و الفنون على لذات الحس الآنية، بل ربما كان من الأفضل للفرد أن يكون إنسانا شقيا من أن يكون كخنزير متلذّذ! من خلال الرفع من مكانة العقل و الشعور في مقابل الغريزة ، على أن يكون ذلك المبدأ اجتماعيا عاما، إذ ليست المنفعة سوى المبدأ الأخلاقي الذي يفضي إلى تحقيق أكبر سعادة ممكنة، فالخير ما هو نافع لنا، وما هو نافع لنا إنما هو الذي يكون في الوقت نفسه نافعا لغيرنا". 

لكن أليس من الموضوعية اعتبارها ثابتة في مبادئها، متطورة في تطبيقاتها في آن معا؟

III- ملاحظة وضعية مشكلة:

لنتأمل في منطوق ما كتبه برتراند رسل في الأخلاق : "قد اختلفت القواعد الأخلاقية في الأزمنة المختلفة إلى حد يكاد لا يصدقه العقل [...] و بالنظر إلى هذا الإختلاف بين النظم الأخلاقية، لا نستطيع أن نقول أن تصرفات من نوع معين صواب و أن أخرى خطأ إلا إذا وجدنا أولا طريقة تحدد أن نظما بذاتها خير من الأخرى [...] إلا أنه عندما تدعي عدة نظم أخلاقية مختلفة أن أصلها جميعا مقدس بدرجة متساوية، فإن الفيلسوف لا يستطيع أن يقبل أي نظام إلا إذا كانت هناك حجج في صالحه لا تتوفر للنظم الأخرى ".

فكيف السبيل إلى حل هذا التعارض؟ أليس من المفروض أن تشترك الأخلاق في حد أدنى من المبادئ بالرغم من اختلاف الوسائل و التفسيرات؟ 

* إن النتيجة التي يقرّرها برتراند رسل في الوضعية المشكلة التي شغلت فكره، تتبلور في أنه صدم بالاختلاف في ميدان الأخلاق، و لكنه صدم أكثر بالإدعاء أن هذه الأخلاق تقوم على فكرة المقدس و المطلق، وهذا تعارض يجافيه المنطق بلا شك.

* لكنه يميل إلى الاعتقاد بأن الإختلاف أوضح لأن التاريخ يثبته، بينما لا يوجد ما يثبت الإدّعاء بوحدة الأخلاق و قدسيتها، ولعله بهذا الموقف حزم أمره فوضع حدا لتردده و حيرته.

أولا: متغيرات الأخلاق ضمن ثوابتها:

إن أشكالية التعدد و الوحدة في القيم الأخلاقية عولجت في مراحل مختلفة من تاريخ الفكر الإنساني ، وتم تحت أسماء و عناوين مختلفة، وفي مجالات معرفية متباينة.

إن هدف أي نظام أخلاقي هو جلب المصالح ودرء المفاسد، لكن المصلحة كما نفهمها لا تختزل في جملة المنافع و المضار الشخصية، أو المتعلقة بجماعة، بل تلك المستنبطة من الطبيعة الإنسانية، و المعتبرة شرعا في الوقت نفسه. و المصلحة "هي غاية  ووسيلة في نفس الوقت، فهي غاية عندما يهدف الكائن البشري أن تكون حياته في منتهى الإستقامة و الصلاح، وفي نفس الوقت هي عبارة عن مجموع الوسائل التي من خلالها يصل الإنسان إلى هذه الغاية". وعلى هذا الصورة تكون الأخلاق مبادئ من جهة أنها قيم مطلقة، و تكون سلوكا من جهة أنها قيم وسيلية. و المصلحة على نحو ما يتحقق استقرائيا هي مطلب الجميع، وهي مما تتفق بشأنه جميع العقول و جميع الديانات، كما يمكن أن تتحدد هذه المصلحة أيضا كسلوكات متغيرة و تطبيقات ابتداء من الضروريات وصولا إلى الكماليات.

ولما كانت المصلحة هي الخير العام و المطلق، فإنها ثابتة لا تتغير وواحدة لا تتعدد، ولكن القيم الوسيلية التي تسعى لتحقيق هذه الغاية (القيمة المطلقة) قد تتغير بتغير الظروف و هنا لا يتحول الخير إلى شر و لا شر إلى خير، وإنما الخير المطلق واحد هو المصلحة المعتبرة شرعا و عقلا، و الموجهة إلى الفرد و المجتمع، و الذي تغير هو القيم الوسيلية ، ذلك أن الغاية الأخلاقية وحدها هي التي تبرّر الوسيلة.

حل المشكلة

خاتمة:

بالرغم من الإختلاف الظاهر حول الأسس التي يقوم عليها الفعل الخلقي ، إلا أنها تبقى في حقيقة الأمر أسسا متكاملة و متداخلة في فهم السلوك الخلقي و الحكم عليه، إنها تحمل من القوة الإرزامية ما يجعلها تمت بلا ريب من بعض النواحي إلى العقيدة الدينية ، وبما أن العقيدة الدينية ذاتها تقوم -إلى جانب التسليم بها- على نوع من الفهم يتم بواسطة العقل، فإن العقل ضروري للتجربة الأخلاقية فهو يصوّبها و يربطها دائما بمنطق الوقائع، ثم أن هذه التجربة، وإن تعلقت قيمها بضمير الفرد نفسه، وجب أن تناقش و أن تستمد أحكامها التنظيمية و قواعدها من الجماعة، دون أن تتعارض-بالضرورة- مع الطبيعة البشرية.