ملخص الدرس / الثالثة ثانوي/فلسفة/الأخلاق الموضوعية و النسبية/في الحقوق و الواجبات و العدل

المشكلة الثانية

في مجال العلاقة بين القيم الخلقية، فأيهما يسبق الآخر ، الحقوق أو الواجبات؟ وهل باختلال التوازن بينهما يتلاشى العدل؟

مقدمة: طرح المشكلة

I-كيف يمكن التمييز بين الحق و الواجب في صلتهما بالعدل؟ وماذا ينتج عن ذلك؟

* عرض وضعية مشكلة

-أولا: الحق من الفرد إلى المجتمع المدني.

-ثانيا: الواجبات الأخلاقية كمصدر للقانون.

II- ثم أي منهما يتقدم الآخر، هل الحق يسبق الواجب، أم أن الواجب يأتي قبل الحق؟

- أولا: الحق أحق بالأسبقية من الواجب.

- ثانيا: أولوية الواجب في تبرير الحقوق.

III-ولكن ألا تعد العدالة، من حيث هي أم الفضائل السامية، مراعاة للتوازن بينهما؟

* عرض وضعية مشكلة

- أولا: المساواة بوصفها تكريسا للعدالة.

- ثانيا: العدالة في التفاوت و اللامساواة.

- ثالثا: توازنها في المساواة و الاستحقاق.

خاتمة : حل المشكلة

طرح المشكلة

مقدمة:

إن العدل من الموضوعات التي نالت حظها من الدراسة و الإهتمام، إذ سلأّم الفلاسفة منذ القدم بأنه إحدى الفضائل الأربع الكبرى إضافة إلى الشجاعة ، العفة، و الحكمة ، الأمر الذي جعل المجتمعات تاريخيا - بالرعم من اختلاف عقائدها و مشاربها الإيديولوجية- تنشده، وماتزال تراود أحلام مختلف طبقات المفكرين من فلاسفة و سياسيين و سوسيولوجيين و قانونيين إلى يومنا هذا. وعبر هذا المسار التاريخي الطويل لم ينعقد إجماع هؤلاء المهتمين على تصور محدد و مضبوط للعدل، وإذا كان أكثرهم يعتبره بمثابة (إعطاء كل ذي حق حقه)، فإنهم مختلفون في ترجمة هذا المفهوم، بدءا من طبيعة هذا الحق، وكذا الواجب الذي يقابله، وما إذا كان العدل نفسه حقا أو واجبا أو كليهما. بل و يزداد هذا الإختلاف تعمّقا كلما ذهبنا باتجاه الفلسفات التي تطرح مواقف متعارضة تؤسس في مجملها لمشكلات جوهرية حول هذه القيم الثلاثة من حيث أنها خلقية ابتداء، فنتساءل مع أصحابها: ما أساس الحقوق؟ وماذا عن الواجبات التي تقابل تلك الحقوق؟ وفي مجال العلاقة بين القيم الخلقية، فأيهما يسبق الآخر، الحقوق أو الواجبات؟ وهل باختلال التوازن بينهما يتلاشى العدل؟

كيف يمكن التمييز بين الحق و الواجب في صلتهما بالعدل؟ و ماظذا ينتج عن ذلك؟

I- 

* عرض وضعية مشكلة:

لنتابع هذا الحوار الذي جرى بين الأستاذ أحمد (أ) و تلميذه علي (ع):

-(أ): نسمع كثيرا تداول الناس لكلمة الحقوق و الواجبات، هل لك أن تقدم لنا مثالا عن حق تراه من حقوقك؟

-(ع): بالتأكيد (الحق في العمل)،

-(أ): أفهم من كلامك أن الحق مكسب و امتياز يمنح لك؟

-(ع): بالطبع، وهل الحق يكون غير هذا؟

-(أ): لا أدري، ولكن الحق بهذه الصفة يمكنك التنازل عنه، فلك كامل الحرية في أخذه أو تركه. فهل (الحق في العمل) كذلك؟

(ع): لا أعتقد، فنفسي تلزمني به و غيري يرغمني عليه.

-(أ): معتى ذلك أن العمل واجب تجاه الذات، وواجب تجاه الآخر، ومن هذا المنطلق فما اعتبرته منذ حين حقا من حقوقك ، يصبح الآن واجبا من واجباتك.

-(ع): صحيح ما تقول يا أستاذ فكيف السبيل إلى حل هذه المشكلة؟

 * تحليل الوضعية المشكلة:

* ينطلق التلميذ (ع) في محاورة أستاذه (أ) من اعتقاد راسخ في ذهنه كون الحقوق و الواجبات من الأمور البديهية التي لا يختلف حولها اثنان، فالحق حق و الواجب واجب و كلاهما معرةفان للجميع، لكن أثناء النقاش يظهر أن (ع) قد صدم نتيجة زعزعة اعتقاده.

* تبين له بأن الحق لم يعد مطلق الوضوح بقدر ما صار متغيرا، و كلمة التغير ها هنا تفيد النسبية، بمعنى أن الحق قد يحمل وجهين، فيكون حقا بالنسبة إلى طرف، ويكون في نفس الوقت واجبا بالنسبة إلى طرف آخر، كما تفيد النسبية أيضا أن الحق يخضع لمنطق التطور و التغير، فما قد يكون لك اليوم حقا قد يصبح غدا واجبا ، نظرا لتطور و تغير القوانين التي تضبط الحقوق و الواجبات، و تغير الظروف التي تتحكم في ذات الوقت.

و نتيجة لكل ذلك يجد (ع) نفسه مع نهاية الحوار أمام مفارقة، كون الواجبات حلّت محل الحقوق. ولعله تساءل بعد أن تزعزع اعتقاده: ما الذي يميز الحقوق عن الواجبات إذن؟ 

إن حل هذه المشكلة يقتضي معرفة طبيعة الحقوق و العلاقة بينها، ثم علاقتها -فيما بعد- بالواجبات، لنصل إلى ما تحققه هذه العلاقة من توازن يكرّس العدل في نهاية المطاف.

أولا: الحق من الفرد الطبيعي إلى المجتمع المدني:

فلو تمعنا في مفهوم الحق لرأينا أنه يشكل إحدى القيم الثلاث، إلى جانب الخير و الجمال، التي تؤلف مبحث لقيم (الأكسيولوجيا). و الحق في معناه العام هو الحكم المطابق للواقع، يطلق على الأقوال و العقائد و الأديان و المذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك ، و يقابله الباطل، و أما الصدق فقد شاع في الأقوال خاصة و يقابله الكذب.

أما من الناحية الاصطلاحية فيمكن القول أن الحق هو ما تسمح القوانين بفعله، سواء كان ذلك السماح صريحا، أو كان نتيجة مبدأ يسوغ كل فعل غير محظور، وهو ما يخوله القانون للفرد من مكاسب، إما بحكم طبيعته أو بحكم علاقاته بالآخر. وما يستنتج من هذا هو وجود نوعين من الحقوق (كما أوضحنا أثناء التعليق على الوضعية)، حقوق تقتضيها طبيعة الإنسان كإنسان و تسمى بالحقوق الطبيعية، و حقوق تتصل بعلاقته بالآخر سواء كان هذا الآخر فردا أو مؤسسة اجتماعية داخل الدولة التي يعيش فيها، و يصطلح عليها بالحقوق المدنية، فما طبيعة كل من هذين النوعين من الحقوق؟ و ما طبيعة العلاقة التي تربطهما: هل الحقوق طبيعية بالدرجة الأولى و مدنية بالدرجة الثانية؟ بمعنى آخر هل تعد الحقوق المدنية في أساسها امتدادا للحقوق الطبيعية؟ ثم ما طبيعة الحقوق المدنية التي ترسمها القوانين، هل هي حقوق فردية أو جماعية؟ وهل الطابع الفرداني يسقط عنها الطابع الجماعي؟ ألا يمكن القول أن الحقوق تبدأ فردية و تنتهي جماعية ومن ثمة فكل حق هو فردي من جهة و اجتماعي من جهة أخرى؟

 1- الحق الطبيعي حق فردي:

يرتبط الحق الطبيعي ب (نظرية الحقوق الطبيعية) التي ترتبط هي الأخرى ارتباطا وثيقا بالنمو المنطقي للثورة الفكرية الإنسانية في عصر النهضة، والتي جاءت ضد سلطة التقليد، و هكذا تصبح النزعة الفردانية مقدمة ضرورية تاريخيا و منطقيا معا، لنشوء و ظهور نظرية الحقوق الطبيعية، إنها النزعة التي كرست الحقوق الطبيعية و دافعت عنها معتبرة إياها جزءا لا يتجزأ من الإنسان، فما خصوصيات هذه الحقوق؟

إن الحقوق الطبيعية هي تلك الحقوق الملازمة للطبيعة البشرية، حقوق يقتضيها الوجود الإنساني من حيث هي تعبر عن كينونته فلاتستقيم حياته بدونها، لذلك فهي حقوق ثابتة لا يمكن إسقاطها كالحق في الحياة، في التفكير، في الملكية، في العمل، في الحرية. و الأمر نفسه ينطبق على باقي الحقوق الأخرى ، كالحق في التفكير، الحياة، الملكية، و الحق في المساواة بين جميع الأفراد، إذ أكدت على قدسية هذه الحقوق حتى الشرائع السماوية. وقد أعلن جون لوك (1740-1632 J.Lock) أن للأفراد كامل الحق في التمتع بالحرية و حقهم في الحياة و الملكية و لايمكن أن ينتزع منهم هذا الحق، فلهم بالطبيعة الحق في المحافظة عليها، إذ ".. لما كان الإنسان يولد، وله الحرية التامة و التمتع بجميع حقوق السنة الطبيعية و ميزاتها دون قيد أو شرط من سماته، سمة أي إنسان أو جماعة من الناس في العالم، فله حق طبيعي بالمحافظة على ملكه". و يضيف بوذا إلى هذه الحقوق الحق في المساواة الذي يمثل جوهر الإنسانية، فكان يدعو مريديه قائلا : ".. اذهبوا إلى كل بقاع الأرض، ولقنوا الجميع هذا الدرس، أكّدوا لهم أن الفقراء و الضعفاء الوضعاء و الأغنياء وعلية القوم كلهم سواء"!

إن هذه الحقوق يمليها من غير تدوين القانون الطبيعي الذي هو ".. مجموعة قواعد يكتشفها العقل الصحيح و يمليها على الإنسان مشيرا إلى أن عملا ما، بقدر ما، لا ينسجم أو ينسجم مع الطبيعة العقلانية، يلازمه انحطاط أدبي أو ضرورة أخلاقية ، هو بالتالي، إما محرم و إما محلل من جهة خالق الطبيعة، أي الله ". 

2- الحقوق المدنية و الأصول الطبيعية:

إن المتمعن في هذه الحقوق التي رسمها القانون الطبيعي يلاحظ كيف أنها أصبحت مصانة و محفوظة و مقنّنة تحت مواد، بعد ما كانت مجرّد إملاءات عقلية غير مدونة، وبالتالي فقد انتقلت من حالتها الطبيعية إلى المدنية، فما الشكل الذي أخذه هذا الإنتقال؟

إن انتقال الحقوق من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية، هو انتقال للإنسان في حد ذاته من حالة الفطرة إلى حالة المدينة حيث القانون الوضعي  المدوّن المتمثل في مجموعة من القواعد تسن من أجل تنظيم شؤون الجماعة و تسيير أمورها، و ذلك بوضع النظم و الظوابط التي تحدد علاقات الأفراد الإجنماعية. وعليه فالقانون الوضعي بصورة عامة يتجلى في مجموعة القواعد القانونية التي تنظم حياة الأفراد داخل مؤسساتهم الإجتماعية بغية تحقيق النظام في المجتمع و علاقات الأفراد فيه. و إن من أهم ما حملته هذه القواعد القانونية ونصّت عليه هو تثبيت تلك الحقوق الطبيعية، و يظهر هذا بشكل جليّ تاريخيا في القانون الروماني، فقد سعى فقهاء القانون وراء قاعدة تتطابق و طبيعة الأشياء تؤسس للقانون الوضعي الذي جاء بالحقوق المدنية، مما يبرر دور الحقوق الطبيعية في عملية تكييف الحقوق المدنية لتساير الأوضاع المتغيرة، كما لعبت دورا هاما في تعديل النظام القانوني للمدينة ، لتكون بذلك مقياسا أدبيا و تعبيرا عن نعمة إلهية، و بالتالي أساسا أبعد لجميع الحقوق المدنية التي نصّت عليها القوانين الوضعية، كما كان لنظرية الحقوق الفردية (تلك الحقوق التي تنشأ مع الفرد بحكم طبيعتها حسب ما نص عليه القانون الطبيعي) صدى كبيرا في إعلان حقوق الإنسان و دساتير الثورتين التنويريتين-الأمريكية و الفرنسية- لتتحول بذلك إلى حقوق مدنية بعد ما قنّنت وضعيا، لذلك اعتبر كثير من فقهاء القانون و الساسيين و الفلاسفة أن الحقوق المدنية ما هي في حقيقتها إلا امتداد للحقوق الطبيعية ومكملة لها.

3- من الإمتداد التاريخي إلى التكامل الوظيفي: 

كل هذا يؤكد على الإمتداد التاريخي لأصول الحقوق المدنية و ارتباطها بالحقوق الطبيعية، لكن ماذا كان وراء هذا الإمتداد؟ و ماهي نتائجه و آثاره؟

وجب أولا أن تكون الحقوق المدنية في خدمة في خدمة الحقوق الطبيعية، كون هدفهما واحدا ألا وهو خدمة الإنسان مما يحتم تكاملهما الوظيفي، لذلك جاءت القوانين الوضعية الحاملة للحقوق الطبيعية، فإذا كانت الملكية حقا طبيعيا، فإن القوانين الوضعية أكدت على هذا الحق وأعطته الشرعية المدنية. و لا تحدد ممارسة الحقوق الطبيعية لكل إنسان إلا بالحقوق التي تؤمن الأعضاء الآخرين في المجتمع، و لا يجوز أن تحدد هذه الحدود إلا بقانون، و ليس للقانون أن يحضر إلا الأعمال المضرة لالمجتمع. كما أنه أثناء تطبيق قواعد العدل الأساسية في القضايا التي تكون نصوص القانون الوضعي حيالها غير وافية، يتم الرجوع إلى مبادئ القانون الطبيعي، وهذا يدل على التواصل و التكامل بين نوعي الحقوق، لأنه لو كان ثمة تعارض بينهما لما تم ذلك.

4- حقوق الأفراد و حقوق الجماعات:

لما كان الحق مكسبا يخول بفعل القانون، أليس للفرد حق و للجماعة آخر؟ ثم إذا كان هذا الحق يتعلق بالفرد مما يكسبه الطابع الفردي ألا يمكن النظر إليه على أنه اجتماعي لكونه يمارس في وسط اجتماعي تكون الجماعة مدعوة للإقرار به؟ وهل امتلاك الحق كممارسته؟ أم أن امتلاك الحق شيء و ممارسته شيء آخر؟

يبدو أنه من السهولة التمييز بين الحق الفردي والحق الجماعي، على اعتبار أن الأول ما خص الفرد وحده و الثاني ما تعلق بجماعة، و أن الحقوق الفردية ترتبط بالقانون الطبيعي كما ترتبط الحقوق الجماعية في جوهرها بالقانون الوضعي. ولما كان القانون الطبيعي سابقا للقانون الوضعي كانت الحقوق قد بدأت فردية ثم انتقلت إلى حقوق جماعية، و الحديث عن هذين النوعين من الحقوق (الفردية و الجماعية) يقودنا إلى الحديث بالضرورة عن ذلك السجال الفكري- القنوني بين مذهبين فلسفيين كبيرين هما المذهب الفردي و المذهب الجماعي.

فالمذهب الأول يؤمن بالحقوق الفردية و يقدسها من منطلق نظرته للفرد و اعتباره أعلى درجة و لاشيء يسمو فوقه، وهو الغاية التي يجب أن تنصهر فيها جميع الغايات، وما الجماعة إلا مجرد تنظيم يسمح له بممارسة حقوقه، كون وجوده سابقا لوجودها، فالفردولد حرا، وأنه عندما دخل الجماعة على أساس عقد اجتماعي أبرم مع سائر الأفراد، دخل العقد وهو يحمل حريته التي هي أصل حقوقه الطبيعية التي خوّله إيّاها القانون الطبيعي.

و في المقابل ينطلق المذهب الجماعية من تصور مخالف و معارض كلية لتصور المذهب الفردي، من حيث يقدم الحقوق الجماعية بوضعها في المقام الأول و يضفي عليها الطابع القدسي، وهي سابقة في وجودها عن الحقوق الفردية، من حيث أن الحقوق ترتبط بالقانون،و أن القانون جاءت به الجماعة لذلك فهو يراعي مصالحها باعتبارها الهيئة التي تتركز فيها مصلحة  مجموع الأفراد الذين يخضعون لسلطانها، ليكون المثل الأعلى للعدل من منظور المذهب الاشتراكي، هو العدل التوزيعي الذي يمكن فيما توزعه الجماعة من حقوق على الأفراد كالحق في المساواة- الملكية -الأمن-الحقفي الوظائف-الحق في التصويت في الإنتخابات و الترشح لها.

تعقيب:

لكن ألا يمكن اعتبار الحق الفردي يبدأ مع الحق الجماعي و يسايره جنبا إلى جنب؟ فكيف يمكن منطقيا قبول فكرة وجود حق للفرد قبل تعاقده مع الجماعة، كون وجود الحق يفترض وجود طرف آخر يقع عليه هذا الحق و يمثل بالنسبة له واجبا و إلا فإن الحق لا يمكن ممارسته، فمثلما لا يمكن تصور وجود واجب في غياب وجود من يقع عليه، فإنه لا يمكن في المقابل تصور حق من غير تصور وجود طرف يعترف به كحق و يسهل عملية ممارسته؟

ونتيجة لهذا يمكن القول أن الحقوق فردية بالنظر إلى مصدرها و جماعية بالنظر إلى المحيط الذي تمارس فيه، كما أن تقدم الحقوق الفردية على الحقوق الجماعية بمنظور بعض النظريات القانونية، هو تقدم منطقي لا تقدم زماني، من منطلق أن وجود الحق يقتضي وجود طرفين، طرف يكون له و طرف يقع عليه، بمعنى أن كل حق يسايره في النهاية واجب ما.

ثانيا: الواجبات الأخلاقية كمصدر للقانون:

لنتصور قاضيا ألمانيا في العهد النازي (و كان لا يؤمن بالنازية إلى درجة أنه يرى فيها قيم اللاإنسانية و قيم العنصرية المنافية لحقوق الإنسان ، لكنه في المقابل، وهو يشغل هذا المنصب، يكون قد أدى اليمين على احترام هذه القيم و الدفاع عنها باعتبارها ترمز لألمانيا كدولة)، وقد كلف بمحاكمة جندي ألماني أتهم بالخيانة لأنه رفض الإلتحاق بالحرب، فماذا بشأن هذا القاضي وهو يرى نفسه يؤمن بما يؤمن به الجندي، فهل ينفذ قانونا يراه ظالما من وجهة نظر وجدانه الأخلاقي على الأقل ؟ أم يضرب به عرض الحائط مع أنه أدى اليمين على احترامه؟

إن هذا الموقف المحرج الذي يتعارض فيه ما هو نظري مع ما هو واقعي، يظهر أن صورة الواجب تختلف عن صورة الحق من حيث أن الواجب الإجتماعي (أو القانوني) المطالب الإنسان باحترامه كان مسبوقا بواجب أهم أملاه عليه ضميره ، ولما كان هذان الواجبان مختلفين في قيمتهما، فليس من الضروري أن يتناغما بقدر ما يتصادما، الأمر الذي يقتضي وضع سلم قيم وفقا لضوابط أخلاقية من أجل فك التصادم و إيجاد مخرج له،. فما نوعية هذه الضوابط الأخلاقية التي تحتكم إليها أثناء تعارض الواجبات و تصادمها؟ وهل الواجبات التي يفرضها الضمير تنسجم مع تلك التي يفرضها المجتمع؟

1- العدالة أساس الواجب الأخلاقي:

يجب التمييز أولا بين مصطلح العدل و مصطلح العدالة، فالعدالة نوع من العدل و ليست هي العدل، أو هي العدل مطبقا على حالة خاصة. و العدل بالقياس إلى العدالة يتسم بالتجريد و العمومية فهو يعنى بالمبادئ العامة، في الوقت الذي تهتم فيه العدالة بالظروف الخاصة لكل حالة، و تتكيّف بحسب كل حالة و تستجيب لكل الدوافع الأخلاقية، كما أن العدل يتسم بالصلابة و التشدد، في حين تميل العدالة إلى العطف و الرحمة، وتمثل الإنسانية في القانون كونها تعمل على إزالة المفارقات و تخفيف ما يكون من حدّة و تشدد في مضمون القواعد القانونية، لكن يبقى السؤال مطروحا: ماذا تعني العدالة بالتحديد؟ وهل الواجب يعكس حقيقة العدالة كفضيلة أخلاقية عدّت أم الفضائل؟

 يذهب أفلاطون إلى أن هذا المفهوم يعني أن نعطي للنفس حقها و ذلك بتحقيق تناسب و تناغم داخلي بين فضائلها الثلاث: الحكمة، الشجاعة، العفة، من خلال خضوع النفس الشهوانية للنفس الغاضبة، و خضوعهما معا للنفس العاقلة، و أن تحقيق هذا النظام في علاقات الأفراد يحقق العدالة الإجتماعية في حين يقدم برودون فهما مغايرا كون العدالة تعني: ".. الإحترام المتبادل الذي يشعر به المرء تلقائيا للكرامة الإنسانية، لأي إنسان مهما كان، وفي كل ظرف تكون فيه هذه الكرامة موضع تهديد، وأيا كانت المخاطر التي تتعرض لها بسبب تصدينا للدفاع عنها".

إن العدالة بهذا المعنى ليست مشروعا أو حلما و إنما حقيقة تظهر بطريقة ملموسة، إنها ليست تصورا بقدر ما هي حقيقة موضوعية تظهر أساسا و بالخصوص في الواقع الإقتصادي من منطلق ".. أن يأخذ كل شخص نصيبا متساويا من الأموال في ظروف عمل متساوية"، وهو مفهوم يختلف عن مفهوم الفلسفة الليبرالية التي ترى في العدالة الحد من سلطة الدولة وفي المقابل إطلاق العنان للفرد.

2- تطبيق العدالة غاية الواجب القانوني:

إن هذا الإختلاف في ترجمة مفهومها لا يسقط عنها كونها إحساسا أخلاقيا موجودا في الضمير الإجتماعي ، أو هي الشعور الأخلاقي الذي يستلهمه القاضي عند محاولته تخفيف حكم قاعدة قانونية في تطبيقها على حالة معينة حينما يسمح له القانون في ذلك بنص استثنائي صريح، إن هذا القانون قد يكون مثاليا أو طبيعيا أو وضعيا حيث يعطي الحقوق لأصحابها و يحدد الواجبات لمن تقع عليهم، لذلك فهي فضيلة تجمع بين طبيعتين، فردية و جماعية، فإذا نظرنا إليها من جانبها الفردي دلّت على هيئة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال المطابقة للحق، و يكون جوهرها الإعتدال و التوازن و الإمتناع عن كل ما هو قبيح و البعد عن الإخلال بالواجب، وإذا نظرنا إليها من جانبها الإجتماعي دلّت على احترام حقوق الآخرين ، وإعطاء كل ذي حق حقه، هذا الحق يكون وجهه الآخر واجبا يفصلهما و يحددهما القانون، لذلك فالقانون ليس غاية في حدّ ذاته بقدر ما هو وسيلة لغاية أسمى إنها غاية العدالة بوصفها أم الفضائل لذلك قيل : (القانون رديف العدالة) فما قيمة هذه المقولة؟

إن القانون ملازم للعدالة، وأن زينة العدالة تأتيها من حيث احتكامها إلى القانون، فالقانون من غير عدل يعد سخرية، و العدالة خارج القانون تعد مهزلة، فهذا التزاوج يكسب العدالة حلة سامية، و الأمر يكون عادلا متى تناغم و قواعد العقل، و التي هي ذاتها القواعد القانونية، و لما كانت العدالة دالة رياضية صورتها : ع=ح+و+ق، بمعنى أن [العدالة هي حقوق+واجبات+قانون يحددها و يضبطها]، ومن ثمة فالحق و الواجب يعدان ثمرة وجود القانون و تطبيقه تطبيقا سليما، ولا يكسبان صفة أية قوة ما لم يقرّهما القانون و يضفي عليهما القوة الشرعية بتحديدهما و بيان كيفية اكتسابهما و انقضائهما، وهو يقوم بهذه المهمة، إنما يهدف إلى رسم معالم العدالة فحاجة العدالة للقانون من حيث كون الإنسان كائن اجتماعي، خلق ليعيش داخل مجتمع، هذا المجتمع تشكله مجموعة أفراد وجب أن تضبطهم ضوابطا و نظما لتنظيم شؤونهم و علاقاتهم ببعضهم بعضا، هذه العلاثقات تفرض ضرورة وجود قانون لتنظيمها بشكل سليم و عادل.

نستنتج إذن أنه على الرغم من عدم إجماع سائر المهتمّين بمسألة العدالة من فلاسفة و سياسيين و قانونيين و سوسيولوجيين على مفهوم محدد و مضبوط لها، إلا أنهم متفقون على المستوى النظري على أن العدالة في صورتها النهائية حق وواجب يتحددان بفعل القانون. 

ثم أيّ منهما يتقدّم الآخر، هل الحق يسبق الواجب، أم أن الواجب يأتي قبل الحق؟

II-

* ملاحظة وضعية:

لننظر و نقارن بين قسمي الوضعية التالية:

(*) ينسب إلى سقراط تعريفه للعدل على أنه (إعطاء كل ذي حق حقه).

(*) وجاء في تعريف أفلاطون له أنه (أداء الفرد لواجبه و امتلاكه لما يخصه).

- تعليق على الوضعية:

ينتج عن التعريف الأول أن فكرة العدل ترتبط بالحق من غير ارتباطها ربما بالواجب، وأن الحق يتقدم الواجب ترتيبا، و أن الإقرار به سابق عن الإلتزام بالواجب، بينما نلاحظ في التعريف الثاني أنه يجعل الواجب متقدما على الحق، هذا التقديم و التأخير ليس عفويا بقدر ما له دلالة، إننا أمام مشكلة محورية تتعلق بالإختلاف في تجسيد تلك الصورة التي تنزل بها العدالة إلى واقع المجتمعات، فإذا كانت إمكانية الفصل بين الحقوق و الواجبات قائمة فإن مشكلة الأسبقية مشروعة الطرح: هل العدالة الحقة هي تلك التي تتقدم فيها الحق على الواجب، أو تلك التي يسبق فيها الواجب الحق؟ وأي من الصورتين تعبر عن روح العدالة؟

لم يتفق فلاسفة القانون الطبيعي وزعماء الفلسفة الوضعية وبعض الفلسفات الأخلاقية الأخرى على حل هذه المشكلة، كون تطبيقها يتوقف على تصورها أولا كمفهوم، وبالتالي لم يتفقوا على تحديد العنصر المحوري للعدالة هل هو الحق أو الواجب، ومن ثمة أي منها تأخذ به في المقام الأول؟    

- أولا: الحق بالأسبقية من الواجب:

فإذا كان فهم العدالة على أنها إعطاء كل ذي حق حقه يجعل فكرة العدالة ترتبط بالحقوق أكثر من ارتباطها بالواجبات، فهل معنى ذلك أن العدالة تقدم الحقوق على الواجبات؟

1- أسبقية الحق الطبيعي:

يقر فلاسفة القانون الطبيعي بأن العدالة تقتضي أن تتقدم فيها الحقوق على الواجبات، فتاريخ الحقوق مرتبط بالقانون الطبيعي الذي يجعل من الحقوق مقدمة للواجبات كون الحق معطى طبيعي، كما أن سلطة الدولة حسب فلاسفة القانون الطبيعي مقيدة بقواعد هذا الأخير الأمر الذي يبرر أسبقية الحق على الواجب، فحق الفرد سابق لواجب الدولة من منطلق أن القانون الطبيعي سابق لنشأة الدولة، وأن القوانين الطبيعية وهي تحترم الطبيعة البشرية في إقرارها بتلك الحقوق الملازمة لكينونتها، إنما تعبر عن العدالة المطلقة. ولما كانت الحقوق الطبيعية حقوقا ملازمة للكينونة الإنسانية، فهي بحكم طبيعتها هذه سابقة لكل واجب ، فهي بمثابة حاجات بيولوجية يتوقف عليها الوجود الإنساني، كالحق في الحرية، الحق في الحياة، الحق في الملكية، كما يمنحهم قانون الطبيعة حقوقا أخرى، كحق محاكمة المعتدي وحق معاقبته، ولا يمكن لأي كان إسقاط هذا الحق، لما كانت الحقوق الطبيعية ترتبط ارتباطا وثيقا بالقوانين الطبيعية، وكانت الواجبات ميزة القوانين الوضعية، أمكن القول أن الحق سابق للواجب من منطلق أن القوانين الطبيعية سابقة للقوانين الوضعية، كون المجتمع الطبيعي تقدم المجتمع السياسي. 

2- حقوق الإنسان أولى في القانون الوضعي:

وقد تأثرت الثورة الفرنسية بأفكار هؤلاء الفلاسفة، و ظهر ذلك جليا في إعلان حقوق الإنسان و المواطن الذي حملته دساتيرها إضافة إلى كل هذا أن المنظمات الدولية لحقوق الإنسان استمدت فلسفتها القانونية من فلاسفة القانون الطبيعي.لذلك فهي تولي اهتماما كبيرا للحقوق على حساب الواجبات، وهو ما جاء في المادة الثالثة من إعلان حقوق الإنسان و المواطن الصادر عن الثورة الفرنسية عام 1789 التي نصت على أن (هدف كل جماعة سياسية هو المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية التي لا يمكن أن تسقط عنه، هذه الحقوق هي الحرية و الملكية و الأمن، ومقاومة الإضطهاد). وما جاء في أول إعلان أمريكي للحقوق، هو الإعلان الذي أصدرته (فرجينيا) في جانفي 1776 من أن (جميع الناس قد خلقوا أحرارا متساوين و مستقلين، ولهم حقوق موروثة لا يجوز لهم عند دخولهم في حياة المجتمع أن يتفقوا على حرمان خلفائهم منها، وهذه الحقوق هي التمتع بالحياة و الحرية عن طريق اكتساب و حيازة الأموال و بالسعي وراء الحرية و الأمان و الحصول عليها).

تعقيب:

إن فلاسفة القانون الطبيعي و حتى المنظمات الدولية لحقوق الإنسان أقروا الحقوق وقدسوها، وفي المقابل تجاهلوا الواجبات، وفي ذلك إخلال بتوازن الحياة. كما أن إقرار هؤلاء حقوقا مقدسة للفرد أهمها أحقيته في الملكية إنما هم يدافعون عن قصد أو عن غير قصد على حقوق الأقوياء بدل حقوق الضعفاء، على إعتبار أن الملكية غير متيسرة للجميع، بقدر ما تكون حكرا على الطبقة الحاكمة، فأية حقوق هذه؟ وهل يمكن الإيمان بوجود حقوق مطلقة تقع خارج منطق التغير و التبدل في عالم تكاد تجرفه التغيرات و التحولات؟

 إن جميع التشريعات الوضعية على مر التاريخ لم تخول موادها حقوقا للأفراد دون مطالبتهم بأداء واجبات، فالحق دائما يلازمه واجب، مما يجعل هذا الحق ليس مطلقا، لأن طغيان الحقوق على الواجبات في مجتمع ما يؤدي إلى تناقضات و اضطرابات، و ينعكس ذلك انعكاسا سلبيا على الدولة بمختلف وظائفها السياسية و الإقتصادية و الثقافية ، ناهيك على أن المبالغة في إعطاء الحقوق هو تعدّ على مبدأ الاستحقاق الذي تؤسس عليه العدالة ، و إهدار لحقوق الآخر من منطلق أن أخذ ما ليس بحق هو أخذ لحق الغير، لذلك فلا غرابة أن نجد موقفا معارضا كلية لهذه الفلسفة القانونية.

- ثانيا: أولوية الواجب في تبرير الحق:

فهل يؤدّي ذلك إلى استنتاج منطقي مفاده أن الواجبات تأتي في المقام الأول ثم يأتي ما يترتب عنها من حقوق؟ وهل من تمام العدالة تقديم واجبات الأفراد قبل إيفائهم حقوقهم؟

1- أولوية الواجب مقتضى عقلي:

تنظر الفلسفة العقلية نظرة مغايرة تماما للنظرة السابقة، إذ تضع الواجبات في المقام الأول و لا تعير اهتماما للحقوق، فإقامة كانط للأخلاق على فكرة الواجب لذاته يبرر أسبقية الواجبات على الحقوق، و بمقتضى هذا الواجب يكون السلوك الإنساني بدافع الإلزام من غير الالتفات لما يتحقق من جراء ذلك السلوك ، أي ما يقابل ذلك الفعل كحق مقابل القيام به، فبحسب منطق كانط، فإن التصدق إنما يتم لأن الواجب يفرض ذلك من غير انتظار أجر من أحد، ولأن الواجب أمر مطلق صوري منزّه عن كل شائبة مادية، وغير مقيد بأية منفعة بل هو غاية في حد ذاته و ليس وسيلة، والمثال ذاته ينطبق على الصانع، فواجب عليه أن يتقن صنعته بغض النظر عن نيله ثناء الناس كحق مقابل هذا الإتقان.

2- أولوية الواجب مقتضى وضعي: 

و إلى نفس المذهب يذهب أوغست كونت، إذ ينطلق من قبول فكرة الواجب دون إخضاعها لأي نقد خاص، فالواجب حسبه هو القاعدة التي يعمل بمقتضاها الفرد، و تفرضها العاطفة و العقل معا، ومن الواجب أن نعمل ما نعترف بأنه أنسب شيء إلى طبيعتها الفردية والإجتماعية، لذلك ففكرة الحق يجب أن تختفي و تستبعد من القاموس السياسي، كما تستبعد كلمة (سبب) من القاموس الفلسفي، كون الكلمتين تتقاطعان في الطابع الميتافيزيقي، فكل فرد عليه واجبات يجب أداؤها، وليس للإنسان أي حق بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، لأن مجرد مطالبة الفرد بحق فكرة منافية للأخلاق لأنها تفترض مبدأ الفردية المطلق، والأخلاق في حقيقتها ذات طابع اجتماعي، إضافة إلى هذا فإن حق الفرد هو نتيجة لواجبات الآخرين نحوه، فهذا يعني أن تحديد الواجب سابق لإقرار الحق، الأمر الذي يبرر أولوية الواجبات على الحقوق، من مبدأ أولوية التفكير الوضعي (العلمي)على التفكير الميتافيزيقي.

تعقيب:إن الطرح الذي قدمته كل من الفلسفة الكانطية و الفلسفة الوضعية يهدّم العدالة من أساسها، كونه يبترها من مقوم أساسي تقوم عليه ألا وهو الحق، فكيف يمكن واقعيا تقبل عدالة تغيب فيها حقوق الناس؟

إنه تأسيس لعدالة تشرع للظلم و الإستغلال ، فكيف يمكن قبول فكرة لا تتناغم مع الطبيعة البشرية ، لأن عمل الفرد و الواجب الذي يؤديه ينتظر من ورائه مقابلا (حقا) ، وهذه حقيقة لا يمكن تجاوزها، لذلك قضى على الحقوق كمكاسب فردية لصالح الواجبات كأوامر اجتماعية، كما أن تاريخ التشريعات الوضعية التي يدافع عنها كونت تبطل ما ذهب إليه، فلا يوجد قانون وضعي يفرض الواجبات على الأفراد دون أن يقرّ لهم حقوقا وإلا كنا أمام عدالة بدون اعتدال. وإذا كان الحق ادّعاء تم تبريره بواسطة المجتمع، فإن الواجب يمثل الالتزام الذي يحقق هذا الادعاء ، بمعنى أن الواجب التزام من قبل الفرد كي يشبع الحق الذي يفرضه عليه المجتمع، من أجل تحقيق الصالح العام أو الخير العام. 

ولكن ألا يعدّ العدل،من حيث هو فضيلة أخلاقية سامية، مراعاة للتوازن بينهما؟

III-

 * عرض وضعية مشكلة:

لنتأمل في هذا السّجال الذي دار بين مفكر رأسمالي (ر) و آخر اشتراكي (ش): 

- (ر): كيف تفهمون العدالة أيها الإنسانيون؟

- (ش):فهمنا لها لا يخرج عن فهم العقلاء الأولين.

- (ر):وما الذي قاله بشأنها هؤلاء الأولين؟

- (ش): إعطاء كل ذي حق حقه.

- (ر): وما الذي تقصدونه بهذا المفهوم؟

- (ش):أن يتساوى الناس في الحقوق و الواجبات،

- (ر): وماذا لو أقمنا بينهم تفاوتا؟

- (ش):أنتم بهذا تظلمونهم!

- (ر):أأفهم من كلامكم أنكم تربطون العدل بالمساواة و الظلم بالتفاوت؟

- (ش):هذا ما نراه و نقره، وما أقره قبلنا كل العقلاء و النزهاء.

- (ر):لكن أليس إعطاء الحق للفرد يقابله برد واجب؟

- (ش):بلى!

- (ر):وهل تعتقجون بأن كل الأفراد الذين يعطون نفس الحقوق يملكون القدرة نفسها على رد الواجبات؟

- (ش):بالطبع لا!

- (ر): إذن بهذه الطريقة أنتم تؤسسون للظلم بدل العدل..

- تعليق على الوضعية:

من الواضح أنه يوجد تعارض في المبدأ الذي تؤسس عليه العدالة بين المذهب الاشتراكي و المذهب الرأسمالي، إذ يقيمها المذهب الأول على أساس مبدأ المساواة بين الأفراد، وهو أساس اجتماعي ذو بعد إنساني حسب زعم أصحابه، لكن استدراج الرأسمالي له وهو يحاوره يوقعه في ورطة، إذ أن مبدأ المساواة هذا بدل أن ينتهي إلى العدل الذي يتغنى به، ينتهي إلى التأسيس للظلم و الجور، وهو بذلك يثبت ببرهنة عكسية على أن العدالة لا يمكن تأسيسها خارج مبدأ التفاوت على اعتبار أنه المبدأ الطبيعي الذي ينطلق من الفرد و يعبر عن طبيعته.

إن هذا التعارض يضعنا أمام مشكلة: ألا تفترض العدالة المبنية على المساواة مسبقا توزيعا عادلا للثروات بين الأفراد بطريقة حسابية مضبوطة بحكم الطبيعة البشرية المتجانسة؟ لكن في المقابل هل يمكن الإطمئنان إلى عدالة في ظل فروقات فرديّة يقرّها التمايز الطبقي في الواقع الإجتماعي؟ و بكلمة موجزة: ما المبدأ الأمثل الذي يحقق عدالة موضوعية على أرضية الواقع لصالح المجتمعات المتعطشة إليها، هل هو مبدأ المساواة أم مبدأ التفاوت، أم أن الأمر قد يقتضي تجاوز الطرحين، إلى طرح آخر يكون أكثر واقعية؟

إن الإجابة عن هذه المشكلة تقتضي أن نبدأ بعرض فلسفة هذين المذهبين:

 - أولا: المساواة بوصفها تكريسا للعدالة:

يعد مبدأ المساواة المبدأ الأساسي الذي تستند إليه جميع الحقوق والحريات، وهو يتصدر جميع إعلانات الحقوق العالمية و المواثيق الدستورية، وقد جعل عديد المفكرين من مبدأ المساواة المفتاح الرئيسي للعدالة، لأنه بانعدام المساواة يفتح المجال للتمييز و التفريق فيكون التأسيس للإستغلال، لذلك كان المبدأ أسمى هدف للثورات العالمية سيما تلك التي عرفت بالتنويرية- الأمريكية و الفرنسية- إيان القرن السابع عشر و الثامن عشر كونه مبدأ لا يهدف إلى إزالة مظاهر التمييز بين الأفراد المؤسسة على الأصل، الجنس، اللغة، العقيدة، أو غير ذلك من الأسباب فقط، و إنما يهدف إلى تحقيق عدالة فضلى لصالح أفراد المجتمع، تمتعهم بالحقوق على قدم المساواة. و يمثل هذا المذهب على الترتيب:

1- فلاسفة القانون الطبيعي:

يعتمد هؤلاء مبدأ المساواة للتأسيس للعدالة تحت مبرر أن الأفراد الذين كانوا يعيشون في حالة الفطرة كانوا يتمتعون بمساواة تامة و كاملة فيما بينهم، ومارسوا حقوقهم الطبيعية على قدم المساواة و بدون تفرقة، لذلك أقروا أن الأفراد سواسية، و ليس هناك شيء أشبه بشيء من الإنسان بالإنسان، فلنا جميعا عقل و لنا جميعا حواس، وإن اختلفنا في العلم فنحن متساوون في القدرة على التعلم. ومن هنا فإن مبدأ المساواة بين الأفراد في الحقوق و الواجبات برأي فلاسفة القانون الطبيعي يعد مقياسا أساسيا للعدالة تقتضيه الطبيعة المشتركة لكل فرد منهم لحقوق الآخر من جهة أخرى، لذلك فهم متساوون و لا يمكن أن نفرق و نميز بينهم، و دليل هذه المساواة من منظورهم:

- إن الناس متساوون بالمقدرة العقلية و الجسدية، وإن كان هنالك بعض الفوارق، فهي ليست بالأمر الكبير، لأن أضعف الضعفاء يمكنه بشيء من الفن أو الإحتيال أن يتغلب على أقوى الأقوياء، فهذه الفوارق على وجودها لا تخلق فروقات عملية هامة في حياتنا.

- إن كل واحد منا يعتقد نفسه أحكم الناس، لذلك فجميعنا راض بقسمته من الجمال الجسدي و المقدرة العقلية و القوة البدنية، وهذا الرضى بلازم التقسيم العادل المتساوي، فنحن إذا متساوون في كل شيء وما على العدالة إلا أن تحترم ذلك.

2- فلاسفة نظرية العقد الإجتماعي:

إن هؤلاء يؤسسون العدالة على مبدأ المساواة بين الأفراد، من منطلق أن الأفراد تعاقدوا للخروج من حالة الفطرة من أجل حياة أفضل يتمتعون فيها جميعا بمساواة مطلقة، فالأفراد كانوا يتمتعون بمساواة تامة و كاملة، ولأسباب عدة و مختلفة انتقلوا من المجتمع الطبيعي إلى المجتمع السياسي -الدولة- من أجل حياة أفضل أكثر تنظيما تحافظ على مساواتهم الطبيعية التي كانوا يتمتعون بها، فالأفراد في المجتمع الطبيعي ما كانوا ليدخلوا في فعل الخضوع هذا ما لم يعتبرهم المتعاقدون معهم متساوين لهم، وهنا تصبح المساواة شرطا لقيام العقد، ومن ثمة فالأصل في العقد أنه قائم على عدالة قوامها المساواة بين جميع الناس في الحقوق و الواجبات بما في ذلك الحاكم و المحكوم على حد سواء.

3- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و الثورات التنويرية:

لقد كان للإعلان العالمي لحقوق الإنسان و الثورتين الأمريكية و الفرنسية على وجه التحديد دورا كبيرا و فعالا في تدعيم مبدأ المساواة كأساس لتجسيد العدالة بين أفراد المجتمع، وهذه الثورات في الحقيقة ما هي إلا تتويج لتلك الحركة الفكرية و الفلسفية التي شهدها القرنين السابع عشر و الثامن عشر التي كانت تنادي بمبدأ المساواة كأساس لعدالة حقيقية بين أفراد المجتمعات، وقد اعتبر جون لوك أنهم يجب أن يحكموا طبقا لقوانين مستقرة نشرت على الناس، لا تتغير طبقا لحالة معينة، إذ يجب أن يكون هناك قاعدة واحدة تطبق على الجميع، فلا فرق بين غني و فقير، وبين فلاح وأمير.

4- الفلسفة الاشتراكية:

تؤمن الفلسفة الاشتراكية بأنه لا عدالى بين أفراد المجتمع دون إقرار مساواة حقيقية بيتهم في الحقوق و الواجبات، و طريق ذلك إقرار للملكية الجماعية لوسائل الإنتاج،  كونها الملكية التي تسمح للجميع بالتمتع بهذا الحق، لأن الملكية الخاصة و امتلاك وسائل الإنتاج بواسطة الأفراد يعرقل روح المساواة و يكرس للطبقية و الإستغلال عن طريق حيازة صاحب رأس المال لعمل غيره فتضيع حقوق الأفراد لصالح أصحاب رؤوس الأموال ، وكنتيجة حتمية لذلك يقسم المجتمع إلى طبقتين متناقضتين طبقة تتمتع بجميع الحقوق و ططبقة محرومة من كل شيء، فتغيب العدالة و يغيب معها استقرار المجتمع.

تعقيب:

إن هذه المواقف على اختلافها تتقاطع عند نقطة محورية ألا وهي تأسيس العدالة على مبدأ المساواة بين الأفراد، المساواة بينهم في الحقوق و الواجبات، بأن يتمتع الجميع بنفس الحقوق و المنافع العامة، و يخضعون على قدم المساواة لجميع التكاليف و الأعباء المشتركة. لكن بنظرة واقعية يمكن القول أن مبدأ المساواة لا يمكنه مسايرة الواقع العملي، و هذا ما تفطن إليه حتى أحد روّاد المذهب الاشتراكي نفسه كشارل فورييه (C.Fourier  1772-1837)، إذ اعترف بأن المساواة المطلقة باتت مستحيلة كونها تتعارض حتى مع الطبيعة البشرية، فإذا كانت الطبيعة لم تسو بين الأفراد في المواهب و القدرات الشخصية، حيث كانت سخيّة مع بعضهم في حين قتّرت على البعض الآخر، فانعكس ذلك على واقع حياتهم فنتج تفاوت حقيقي و تمايز فعلي و خاصة في ضوء التقدم العلمي و التقني المذهل، الأمر الذي يدعو و يفرض إعادة قراءة و مراجعة مبدأ المساواة كمبدأ لعدالة موضوعية.

- ثانيا: العدالة في التفاوت و الإستحقاق:

إن التفاوت مبدأ حقيقي، و لا يمكن للعدالة أن تؤسس خارج هذا المبدأ ، إنه قانون الطبيعة البشرية، فإذا كانت الطبيعة لم تعدل بين الأفراد و جعلتهم غير متساوين، وجب أن تؤسس العدالة على التباين في الحقوق و الواجبات بين الأفراد. فماذا عن مبدأ التفاوت كأساس للعدالة؟ و كيف تم تبريره؟

هذا ما آمنت به بعض النظريات الدينية و الفلسفية وآمن به العديد من العلماء و المفكرين بناء على الفوارق في القدرات و المواهب و الإستعدادات، إذ جعلت الطبيعة من البعض أذكياء و أقوياء ، وجعلت من البعض الآخر أغبياء و ضعفاء. و يعبّر عن هذا التوجه:

1- في الفلسفة الكلاسيكية: ذهب أفلاطون إلى تقسيم المجتمع إلى ثلاث طبقات: طبقة الحكام، والجنود، و العبيد، وهي طبقات تقابل مستويات النفس الإنسانية: النفس العاقلة، والنفس الغاضبة، والنفس الشهوانية، هذا التقسيم مردّه الإختلاف القائم بين الأفراد في القدرات و المواهب و المعرفة و الفضيلة، لذلك على العدالة أن تحترم هذا التمايز الطبقي الموضوعي، فللحكام (الفلاسفة) حقوق و للجنود حقوق من الدرجة الثانية وحقوق العبيد تأتي من الدرجة الثالثة، و الدولة مطالبة أن تراعي هذه الفوارق وأن توزع هذه الحقوق وفقا لهذا المعيار الذي يقتضي أن يوضع كل فرد في مكانه اللائق. أما أرسطو فقد رأى أن بعض الناس يولدون عبيدا بالطبيعة، ولهذا فهم لا يصلحون إلا للعبودية ! فالعدل من هذا المنطلق يوجب أن يوضع كل فرد في مكانه الطبيعي الأليق به وما مبدأ إتاحة الفرصة للفرد، والذي تقرّه التشريعات الوضعية ، إنما هو في حقيقته اعتراف ضمني بالفوارق الطبيعية القائمة بين الأفراد، لذلك فتوزيع الحقوق بين هؤلاء يجب أن يكون على أساس هذه الفوارق، كما أن عدالة التوزيع التي يؤكد عليها أرسطو أساسها الاستحقاق طبقا للكفاءة و الاستعدادات الطبيعية التي تزداد معها الفروق الاجتماعية. 

2- في الفلسفة الحديثة: يؤكد هيغل (Hegel 1770-1831) على مبدأ التفاوت لكن على مستوى أعلى أي التفاوت بين الأمم، فالأمة التي تصل إلى الفكرة المطلقة يحق لها أن تملك كل الحقوق و تسيطر على العالم على أساس أنها أفضل الأمم، و يبقى للأمم الأخرى واجب الخضوع، فللقوي الحق و على الضعيف الواجب وهذا هو المنطق الذي يجب أن تحتكم إليه أية عدالة سواء تعلق الأمر بالأفراد أو الأمم. وهي الفكرة نفسها التي اعتنقها الفيلسوف الألماني نيتشه (Nietzsche 1844-1900) ، إذ يؤكد على أن التفاوت بين الناس قائم و لا أحد يمكنه إنكاره و كنتيجة لهذا الإيمان يقسم المجتمع إلى طبقتين: طبقة الأسياد و طبقة العبيد، ومن الطبيعي أن يكون للأسياد حقوق غير تلك التي تكون للعبيد، للأسياد حق الملكية و الحكم و للعبيد واجب الطاعة و الإحترام و خدمة الأسياد، وأن أية محاولة من قبل العبيد حتى التفكير في التطلع إلى حقوق الأسياد يعد اختلالا للتوازن الإجتماعي و المساواة الذي تقتضيه العدالة الإجتماعية، كما يحرم على هؤلاء العبيد حق المشاركة في الإنتخابات وحق الترشح لها و الإدلاء بأصواتهم، فذلك وقاحة و فضاضة كونهم يفتقرون إلى صفات تؤهلهم لذلك.

3- في الإيديولوجيا الرأسمالية: تنطلق هذه الفلسفة بالتأسيس للعدالة من منطق مبدأ التفاوت، مبدأ الطبيعة البشرية ، فالأفراد مختلفون في مواهبهم و قدراتهم مما يبرر التفاوت بينهم في الحقوق، و ما الملكية الفردية التي تؤمن بها هذه الفلسفة في تنظيمها الإقتصادي و السياسي إلا ترجمة لذلك. إن الملكية الفردية لوسائل الإنتاج معناها إعطاء الأحقية للبعض في التملك دون البعض الآخر، لأن وجود هذه الملكية لدى البعض يقتضي انعدامها بالضرورة لدى البعض الآخر من أعضاء المجتمع، وهكذا فالفلسفة الرأسمالية تكون بهذا قد قسمت المجتمع -شأنها في ذلك شأن الفلسفات السابقة الذكر- إلى طبقتين طبقة مالكة (أصحاب رؤوس الأموال) و طبقة أجيرة (طبقة العمال الكادحين)، و لكل طبقة امتيازاتها.

4- في علوم الطبيعة و الإنسان: إذا كانت العدالة تؤسس على الحق و الواجب، و كان إعطاء الحقوق للأفراد يقابله مطالبتهم بردّ واجبات ، فإن قدرة الأفراد على رد الواجبات مختلفة و متفاوتة و يظهر ذلك في كجالات عدة، فعلى المستوى البيولوجي هناك اختلاف في بنياتهم البيولوجية و المورفولوجية، مما يحتّم اختلاف قدرتهم على العمل، ومن ثمة اختلاف القدرة في رد الواجب، لذلك فروح العدل تأبى أن تسوي بينهم في الحقوق، فالتفاوت و الإختلاف بين أفراد قانون طبيعي يستمد مصداقيته من الواقع، لذلك يقول الطبيب و الفيزيولوجي الفرنسي آلكسيس كاريل (A.Carrel 1873-1944) ".. بدلا من أن نحاول تحقيق المساواة بين اللامسواة العضوية و العقلية" [...] يجب أن نوسع دائرة هذه الاختلافات و ننشئ رجالا عظماء. فالناس حسب كاريل يولدون مختلفين، فهناك من يولد رقا، وهناك من يولد سيدا، لذلك يجب أن نساعد أولئك الذين يملكون أفضل الأعضاء و العقول على الإرتقاء اجتماعيا. كما يظهر تمايزهم في المجال السيكولوجي من حيث أنهم مختلفون في قدراتهم العقلية و في مواهبهم و ذكائهم، ويمتد هذا الإختلاف إلى المجال الإجتماعي، فالناس في حياتهم الإجتماعية ليسوا سواء، فهناك الفقير و هناك الغني، هناك من يملك وهناك من لا يملك، والملكية حق طبيعي للفرد، فليس من العدل أن ننزع منه هذه الملكية لنشرك معه فردا آخر بدعوى المساواة.

تعقيب:

إن إقرار مبدأ التفاوت كأساس للعدالة، إنما يؤسس لعدالة ضيقة لا يتسع صدرها لاحتضان جميع أفراد المجتمع، إنها عدالة الطبقة العليا، فالتأسيس الموضوعي للعدالة يجب أن يتجاوز أية إيديولوجية، ومن ثمة تجاوز تلك التصورات القبلية التي تجعل من الأفراد مواطنين من درجات مختلفة، فعلى أي أساس يقسم الناس إلى طبقات؟

إن العدالة كقيمة أخلاقية ترفض أن تؤسس على هذا التصور الإجتماعي العنصري، فهي أسمى من أن تنزل إلى مستوى هذه النظرة التي تبرر الظلم و الجور و تكرس الاستغلال، فلقد أدّت هذه العدالة التي بشّر بها هؤلاء الفلاسفة على اختلاف مشاربهم إلى ثراء فاحش لأصحاب الحقوق و في المقابل فقر مدقع لأصحاب الواجبات، لتخلق بذلك مجتمعا استغلاليا يقدس الثروة و يحطم المساواة و يوسع الهوة بين طبقاته الإجتماعية.

- ثالثا: توازنها في المساواة و الاستحقاق:

و إلى هذا الحد يجب أن نتساءل: هل العدالة كقيمة أخلاقية كبرى تختزل في أحد هذين المبدأين، أم أنها تتّسع لتشملهما معا في تفاعل و تكامل و انسجام؟

إن العدالة الحقة هي تلك التي تزاوج بين المبدأ و التطبيق، بمعنى أن تقوم على مبادئ موضوعية تعكس ممارساتها الواقعية، تقتضي تحديدا ضروريا للقيم لمختلف الأحوال الحسية للوجود الإنساني المتعلقة بمجالات حياته و ربطها بأسس عادلة من خلال مؤسسات الدولة، لأن العدالة في واقع أمرها تنزل من الدولة إلى الفرد أكثر مما تصعد من الفرد إلى الدولة، من هذا المنطلق يرسم زكي نجيب محمود صورة مثلى لعدالة واقعية تنطلق من تحديد مجالات الحياة و تقسيمها إلى ثلاثة مجالات (مجال الحقوق، ومجال القدرات، ومجال الحاجات الإجتماعية)، ويقابل كل مجال بأساسه الصالح له، فالمجال الأول يحدده القانون، والثاني الجدارة، و المجال الثالث تحدده الحاجات الضرورية للأفراد:

- ففي المجال الأول يجب أن يكون العدل القضائي بيمزانه أعمى عاصبا عينيه حتى لا تدخل الإعتبارات الشخصية، و يقتصر دوره على رد الحقوق المغتصبة لأصحابها.

- و في المجال الثاني، مجال القدرات، يقوم العدل على أساس الجدارة ما دامت قدرات الناس مختلفة، فإن فكرة المساواة تفسد معنى العدالة، و العدل ها هنا يكون هو الآخر أعمى حتى لا يفرق بين الأفراد إلا على أساس الجدارة و الإستحقاق.

- أما المجال الثالث فيقتضي عدالة قائمة على أساس حاجيات الناس الضرورية، فمن المنطقي أن يكون التوزيع حسب الحاجة، و العدل في هذا يجب أن يكون، عكس المجالين الأولين، مبصرا ليرى في وضوح الذي يستحق من الذي لا يستحق.

إن التمييز بين هذه المجالات و الأسس يتيح رسم صورة حقيقية لعدالة موضوعية بين أفراد المجتمع، بمعنى إن العدالة إذا كانت تعبر عن الفرد باعتبارها فضيلة له فهي تعكس بدرجة أولى توازن المجتمع و الدولة لأنهما أكبر من الفرد.

 

 

حل المشكلة

خاتمة:

نخلص إذن من كل ما تقدم، أنه إذا كان لفرد ما حق، فعلى الآخر واجب إشباع هذا الحق، فحق الفرد في استخدام ملكيته يتضمن واجب جيرانه في عدم التعدي على تلك الملكية، و إذا كان للفرد حق، فمن واجبه استخدام هذا الحق في الصالح العام لمجتمعه بما يكفل للفرد كرامته و للمجتمع انسجامه، والظلم يجرح عواطف العدالة و يدمي فؤادها، فالمجتمع الفاقد للعدل فاقد لمقوماته الصحية و بالتالي فاقد للوجود.

إن هذا التناسب بين الحقوق و الواجبات هو الذي يحقق العدل، لأن أيّ طغيان لطرف على حساب آخر ينتج الظلم و الجور و الإستغلال، وهذا التكافؤ بين الحقوق و الواجبات هو العدل بعينه، وما العدل في حقيقته إلا تعادل، هذا التعادل يترجم الطبيعة البشرية و يعبّر عن جوهرها، من منطلق أن كل فعل يقابله ردّ فعل حتى يتحقق التوازن، والحق يكمّله الواجب ليحدث ذلك التوازن و التعادل، فالعدل إذن هو قانون الطبيعة و قانون الإنسان معا.