ملخص الدرس / الثالثة ثانوي/فلسفة/الأخلاق الموضوعية و النسبية/في العلاقات الأسرية و النظم السياسية و الإقتصادية
المشكلة الثالثة
إن التغير الذي يتغلغل حياتنا اليومية، أصبح أمرا واقعا، أليس من الحكمة إعادة قراءة مكتسباتنا القيمية و التراثية في مجال العلاقات الأسرية و نظمنا الإقتصادية و السياسية؟
مقدمة: طرح المشكلة.
I- كيف يمكن للأسرة أن ترتقي بمكتسبات و قيم التراث باتجاه معالجة مشكلاتها الجديدة؟
* عرض وضعية مشكلة
-أولا:الأسرة كيان اجتماعي متطور.
-ثانيا:مشكلاتها الوظيفية (المواجهة و التكيف)
II-ثم كيف يتأتى للعمل أن يرفع من شأن تلك المكتسبات و القيم في ضوء تحدّي العولمة؟
* عرض وضعية مشكلة
-أولا:من العمل إلى الاقتصاد (المبادئ و النظم).
-ثانيا:قيم العمل و تحدّيات العولمة.
III-وهل بوسع الدولة أن تراهن على تفعيل تراثها القيمي بما يواكب تحولات العصر؟
* عرض وضعية مشكلة
-أولا:وظيفة الدولة بين الأخلاق و القانون.
-ثانيا:من مشروعية الحكم إلى عالمية النظام.
خاتمة: حل المشكلة.
طرح المشكلة
مقدمة:
من الحقائق المسلّم بها أن الإنسان، منذ بواكير تاريخه، لا يعيش في تفاعل مع الطبيعة فقط بل يعيش في جماعة، في مجتمع. فهو-كما يقول الفلاسفة وعلماء الإجتماع- كائن اجتماعي بطبعه لا يستطيع أن يحفظ وجوده في الواقع إلا من خلال الآخرين، ومن ثم نجد الإطار الاجتماعي بمثابة المبرّر المنطقي من وراء ظهور المؤسسات و التنظيمات الثلاثة الأساسية : الأسرة، الإقتصاد، و الدولة. فأمّا الأسرة فتعد، باعتبارها مصدر الأخلاق و الدعامة الأساسية لكل تهذيب للسلوك، المؤسسة الأولى التي يتلقى فيها الأفراد أهم دروس الحياة الإجتماعية، وفي النظام الإقتصادي يسعون بالعمل الإنتاجي إلى الحصول من الطبيعة على المواد اللازمة لإشباع حاجاتهم الحيوية و الإنسانية، ولما كان اجتماع البشر يقوم على علاقات لابد أن تنجم عنها نزاعات، كما تنجم عن تفرقتهم صراعات، احتاجوا إلى جانب اجتماعهم تنظيما سياسيا يمنع تظالمهم، ويقوم بتصريف شؤونهم. وهم ضمن هذه المؤسسات الثلاث يرومون تتحقيق سعادتهم التي لم يحققوا منها في الواقع إلا النزر القليل بسبب المشكلات التي يفرزها تطورها عبر العصور التاريخية، مما يستدعي بالضرورة إصلاحها و إعادة تقويمها باستمرار. لذلك، وعلى ضوء التحوّلات الراهنة الحاصلة فيها، يتعيّن علينا أن نتساءل : إذا كان التغير الذي يتغلغل حياتنا اليومية، قد أصبح أمرا واقعا، أليس من الحكمة إعادة قراءة مكتسباتنا القيمية و التراثية في مجال العلاقات الأسرية؟
كيف يمكن للأسرة أن ترتقي بمكتسبات وقيم التراث باتجاه معالجة مشكلاتها الجديدة؟؟
I-
* عرض وضعية مشكلة:
لنتابع مجريات هذا الحوار المنعقد بين ربّة أسرة (ر) وابنها عزيز (ع) المقدم على الزواج:
-(ر): هل لي أن أعرف ما سيكون عليه وضع أسرتك بعد زواجك؟
-(ع): سيكون مختلفا عن أسرتنا الحالية التي تضم ثلاثة أجيال، ستكون أصغر بالطبع،
-(ر): وماذا عن زوجتك المقبلة، هل تستطيع-وهي موظفة- رعاية أبنائك و تنشئتهم؟
-(ع): لا نفكر في الإنجاب إلا بعد مدة كافية. ومهما يكن فإننا نتشارك في كل شيء، بما في ذلك الوظيفة و رعاية الأبناء بكل مسؤولية.
-(ر): أخشى أنك بهذا تحاول أن تتمرد على تقاليدنا و تراثنا و قيمنا..
-(ع): على رسلك يا أمّاه! فإن لعصرنا مشكلاته التي لا تجدي فيها تقاليدنا و قيمنا، بل لابد من مواجهتها و التأقلم معها..
-(ر): ربمّا أنت على حق، فقد خلقتم لزمان غير زماننا، ولكن المشكلة أننا لا ندري هل بإمكاننا نحن، بما جبلنا عليه من إرث أخلاقي، أن نتأقلم مع زمانكم هذا؟!
تحليل الوضعية:
يتبين من خلال الوضعية المشكلة أن مدار الخلاف بين (ر) و ابنها (ع) جزء من ذلك الخلاف الأزلي بين القديم و الجديد، و الموروث و المكتسب ، والتقاليد ومواكبة العصر، فيما يمكن اعتباره صورة معبرة للتنازل بين الأجيال. ولهذه الصورة هنا أكثر من ملمح أساسي:
* فمن حيث البنية و التكوين، يوجد تعارض بين حالة موروثة تعتبر الأسرة كيانا واسعا يشمل ليس فقط الوالدين و الأبناء، بل حتى الأقربين من الجيل الأول كالجد و العم، و ربما الأبعدين أيضا، وبين واقع معاصر يفرض أن تكون الأسرة قاصرة على الزوجين و الأبناء فحسب.
* ومن حيث طبيعة الوظيفة الموكولة إلى الأسرة، يقف التصور التقليدي عند حدود المحافظة على النسل و رعايته بالتربية، فيما يدعو التصور المعاصر لها إلى تنظيم هذه الوظيفة المزدوجة و ترشيدها بما يسمح بمشاركة أوسع للأسرة في الحياة الإجتماعية و الحركية الإنتاجية.
* و أخيرا من حيث نوعية المشكلات التي تواجهها، فإن الأسرة التقليدية لا تعرف منها سوى التفكك أو الطلاق، في حين أن تطور الحياة المعاصرة و تعقد علاقاتها أدّى إلى بروز مشكلات من نوع آخر: كتمرد الفرد، وضعف رعاية الدولة، و التمييز ضد المرأة..إلخ.
لا شك في أن المجتمع الإنساني لهذا العصر يدفع بالأسرة إلى إعادة تقويم وظيفتها الأخلاقية و التربوية في مواجهة شيوع نزعة التفكك الإجتماعي و التحلل من قيود الموروث، وما أدى إليه من تنامي روح المغامرة و التمرد على مستوى الأفراد، مما يدعونا إلى التساؤل: إذا كانت الأسرة هي الخلية الأساسية للمجتمع و ثمرة لنظام الزواج، فما هو الدور الأساسي الذي تلعبه في النسق الإجتماعي؟ و إذا كانت الحياة الزوجية تتعرض لعوائق داخلية و خارجية تمثل تحديات أمام الأسرة، فما هي هذه التحديات الجديدة؟ وكيف السبيل غلى مواجهتها؟
للإجابة على مجمل هذه الأسئلة، ينبغي التعرف على مفهوم الأسرة كبناء اجتماعي ووظيفة متعددة الأوجه، وعلى طبيعة المشكلات و التحديات التي تواجهها واهنا:
-أولا: الأسرة كيان اجتماعي متطور:
إن الأسرة تساعد الفرد على الإندماج في المجتمع ليصير عضوا في الأسرة، وإذا كانت الأسرة تعمل من أجل أن يبقى أفرادها على وفاء دائم لها في جميع أحوالها، فإن المجتمع لا يريد من الأسرة إلا أن تكون الحاضنة الأولى للأفراد تعدهم ليكونوا أفرادا في المجتمع وولاؤهم له، وقد اعتبر هيغل أن نهاية الأسرة هو الإنحلال ليتحول أعضاؤها أفرادا في المجتمع: "إن وحدة الأسرة وحدة محسوسة تقوم على الحب، فالفرد يوجد داخل الأسرة بصفته عضوا من أعضائها، وليس فقط بصفته فردا، وتكون نهاية الأسرة بالإنحلال، وعلى إثره يوجد الأفراد بصفتهم أشخاصا مستقلين، أي بصفتهم عناصر من المجتمع".
1- الزواج أساس قيام الأسرة: لا تقوم الأسرة إلى على أساس الزواج، إذا كان المجتمع لا يتكون إلا من خلال أسر فإن الأسرة لا تقوم إلا على أساس الزواج، فهو اقتران بين رجل و امرأة لتكوين أسرة جديدة، وتختلف شروط عقده و فسخه و الحقوق و الواجبات المترتبة عليه، باختلاف الجماعات. معنى هذا أن الزواج يخضع إلى نظام اجتماعي تحكمه قيم على عكس التزاوج بين الكائنات الحية، فهو يحدث بطريقة آلية طبيعية تقتضيه الغريزة، أي الضرورة البيولوجية، ومن ثم الزواج لا يكون إلا بين امرأة و رجل و عليه هذه العلاقة قد تتعدد بينهما فتطرح أشكالا و أنماطا أساسية تؤكدها النظرة التحليلية لتاريخ الزواج:
فقد بدأ تطور الأسرة من حالة التنظيم المشاعي (البدائي)، وصولا إلى الصورة الحديثة للأسرة التي تقوم على الأحادية، مرورا ب: النظام الأميسي (Matriarcat حيث السيطرة للأم)، فالنظام الأبيسي (Patriarcat حيث السيطرة للأب).
و تتجلى الأسرة الأحادية من خلال زواج رجل واحد من امرأة واحدة وهي من الأشكال المفضلة في كثير من المجتمعات و بالتالي فهي منتشرة على أوسع نطاق عالميا، لأن الوضع الخلقي و الإجتماعي و النفسي للمرأة كالكرامة و المكانة الإجتماعية و شعورها بدورها الفاعل داخل الأسرة والمجتمع و شدة الرابطة العاطفية التي تجمعها بزوجها، كل هذه القيم سمحت بتشكيل نظام الزواج الأحادي.
2- من الأسرة الممتدة إلى الأسرة النواة: كتب أحد الرحّالة يصف عائلة جزائرية في منتصف القرن 19 : "... كان أحمد يسكن مع أمه الأرملة، التي كانت ترأس عددا من الفتيات من أقرابها، فالعادة الجزائرية تقضي بأن يسكن أناس ينتمون إلى أجيال ثلاثة في بيت واحد، وفي هذه الحالة يضم الحريم جميع أعضاء الأسرة من الإناث، وكان بطبيعة الحال ممنوعا عليّ-كأروبي و كرجل- منعا باتا الدخول إلى قداسة الحريم".
إن هذا النوع من العائلات الذي كان مسيطرا في كثير من مناطق العالم يدعى بالأسرة الممتدة، حيث كانت نسق الأسرة السائد في مجتمعاتنا، وهي تتكون من الزوج و الزوجة و الأولاد الذكور والإناث غير المتزوجين و المتزوجين و أولادهم و غيرهم من الأقراب كالعم و العمة و الأبناء للأرملة،و هؤلاء جميعنا يقيمون في نفس المسكن و يشتركون في حياة اقتصادية و اجتماعية واحدة تحت رئاسة الأب، فهي تتركب من أكثر من جيلين: جيل الأجداد، و جيل الآباء ، وجيل الأحفاد، وقد تزيد عن ذلك أيضا، ومن الناحية المثالية يصبح الرجل في مركز الرئيس أو الزعيم، يفيض بالحكمة و يتمتع بالسلطة و المهابة، و يستمد نفوذه من أبنائه المتزوجين، ويكون كل فرد داخل نمط الأسرة الممتدة تابعا اجتماعيا و اقتصاديا.
ولكن التطورات السياسية و الاقتصادية و الثقافية لمجتمعاتنا الحالية أدت إلى انتشار الأسرة النواة التي تتكون من الزوجين و أبنائهما فقط، معنى هذا أنها تشمل جيلين: آباء و أبناء تربطهم علاقات اجتماعية و اقتصادية و عاطفية و أخلاقية متبادلة و أهم مميزاتها: وجود الركن القانوني كأساس للمعاشرة بين الزوجين، والمشاركة في اتخاذ القرارات بحيث يكون كل عضو في الأسرة النواة قادرا على تحمل المسؤولية ليس فقط تجاه أسرته بل أيضا تجاه مجتمعه، وهي تعكس الميل إلى التسامح و الحرية على العكس من الأسرة الممتدة التي نجد أعضائها يفتقدون للحرية و المشاركة في اتخاذ القرارات، وبالتالي تكون مسؤولية كل فرد تجاه المجتمع أضعف مما هي عليه.
- ثانيا: مشكلاتها الوظيفية (المواجهة و التكيف):
يقول أحد الأبناء: "إن والدي لا يكفان عن توجيه النقد و الملاحظات، لقد ضقت بهما و مللت هذه الحياة ، بيد أنني أعلم نتيجة مغادرتي للأسرة، سوف لا أستطيع الحصول على الغداء و الملبس و المسكن، وإذا تركت المنزل فسوف أجلب لهما الحزن و الهم، ولذلك سوف أتحملهما بقدر ما أستطيع، إنهما لا يتركاني أبدا أفعل ما أريد، ومع ذلك فأنا أقوم بكل ما أرغب فيه ثم أخبرهما فيما بعد، لقد انقضى السّن الذي كانا يستطيعان فيه حرماني من متعتي ، كما أستطيع أن أواجه و أتحمل ما يوقعان عليّ من عقوبة و لا أبالي بها".
من خلال ما تقدّم نرى أن الأسرة و إن وفرت الأمن الغذائي و الملبس و المسكن للطفل، لكن تربيته و نشئته بالمبالغة في مراقبة سلوكه تؤدي إلى شعوره بالملل و الضيق. في مقابل ذلك يتّجه الطفل إلى تحدي هذا الوضع بميله إلى أشباع رغباته بطريقة متخفية مع الإستعداد لتحمل ما يترتب عن ذلك من عقوبات. مما يدعونا إلى البحث في وظائفها و مشكلاتها:
1- طبيعة وظائفها التنوع:
أ)- إن المجتمع لا يستمر في وجوده إلا من خلال إنجاب الأطفال و حمايتهم مما يجعل المهمة البيولوجية من المهام الأساسية للأسرة، إذ تنحصر في العلاقات الزوجية و الغريزة التي يحفظ بها النوع الإنساني، مما يقتضي قيام المعاشرة الزوجية على أسس سليمة من أجل التوافق و الإنسجام بين الزوجين، كما تقوم الأسرة في هذا المجال بضبط السلوك الجنسي في المجتمع لتقليل النزعات الجنسية و تحد من إنجاب الأطفال غير الشرعيين و ذلك خدمة للمجتمع.
ب)- و إذا كانت المعاشرة الزوجية قد تساعد على إشباع الدوافع البيولوجية، فإن توفير السبيل لإعتراف المجتمع بالأطفال على أنهم شرعيون و أكفاء لحمل تقاليده يبقى من المهام الأساسية للأسرة، فالقواعد المتعلقة بشرعية الأطفال تتيح ترخيص المجتمع للوالدين بالأبوة و الأمومة بموجب معايير يحددّها كل مجتمع لأعضائه، كما تسمح يإعطاء الطفل مركزا اجتماعيا من خلاله يقوم الأعضاء بالأدوار المحددة تجاهه ومن ثم ينمو داخل المجتمع نموا سويا.
ج)- وهناك روابط نفسية بين أفراد الأسرة تتجلى في صور الحنان و المحبة و التآلف، وهي من الوظائف الأساسية للأسرة وتعد بمثابة الحبل القوي الذي يشد أفراد الأسرة بعضهم إلى بعض. ومن خلال العلاقة الأولية المبكرة بين الأم و الطفل، يحصل الطفل على حاجته إلى الأمن، في الوقت الذي تتحول فيه المرأة من أم بيولوجية إلى أم بالمعنى السيكولوجي، وتصبح الطاقة النفسية أكثر فاعلية و نجاحا.
د)- لكن التغذية السيكولوجية التي تقدمها الأسرة لأعضائها ليست كافية، بل يجب توفير الحاجيات الأساسية لأعضائها و بالتالي القيام بالمهمة الإقتصادية، حيث كانت الأسرة في الماضي وحدة اقتصادية مكتفية ذاتيا تقوم باستهلاك ما تنتجه، لكن الإنتاج الصناعي الكبير حوّل الأسرة من موسسة اجتماعية إنتاجية إلى مؤسسة اجتماعية استهلاكية، إذ هيّأ المجتمع منظمات جديدة تقوم بعملية الإنتاج الآلي و توفير السلع و الخدمات بأسعار أقل نسبيا.
2- تحديات جديدة أمام الأسرة:
إن أخطر ما يتهدّد الأسرة ميل أفرادها إلى النزعة الفردية على حساب النزعة الإجتماعية، مما يفسح المجال أمام نشوب الأزمات و تراكمها، فيظهر الخلل في العلاقات الأسرية التي لاتقدر على مواجهة أي انحراف بالقياس إلى أنماط الحياة العادية، وتكون النتيجة الطبيعية حدوث التفكك الأسري و تعذّر استمرار وحدة الأسرة، لذا نتساءل عن أسباب التفكك الأسري ما هي؟
إن الطلاق أكبر دليل على تصدّع الأسرة وانهيار مقوماتها، فهو إنهاء زواج صحيح في حياة الزوجين، وصورة من الفسخ القانوني لرابطة الزواج، وينتج في العادة عن الصراعات المتصلة التي تنعكس على أعضاء الأسرة نفسيا و اجتماعيا بالسلب.
ومن بواعثه غير المباشرة في المجتمعات المعاصرة ذلك الكفاح من أجل رفع المستوى الإقتصادي و الانتقال إلى مستوى اجتماعي أعلى، مما دفع بالمرأة إلى مشاركة الرجل في كفاحه لزيادة دخل الأسرة عن طريق التحاقها بالعمل، و نسبة النساء العاملات سواء في المجتمعات المتقدمة أو النامية في زيادة مستمرة سواء كنّ متزوجات أو غير متزوجات، وبالتالي تحسّنت مكانة المرأة الإجتماعية، فأعطاها ذلك نمطا من الإستقلال و الحرية، الأمر الذي جعل حقوقها تمتد إلى مجالات أخرى كالتعليم و الرياضة و منافسة الذكور فيها.
إلا أن المراة اكتشفت فيما بعد أن التحرر الذي نالته ليس سوى تحرّر مظهري، أما الجوهر فهو أخطر بكثير و لازال بعيد المنال. هذه الصورة كان لزاما على المرأة أن نثور ضدّها للتحرر منها، وهذا لا يتحقق إلا بالعمل على تصحيح الأوضاع المزيّفة التي دعمتها المفاهيم الإجتماعية السائدة، ومنح المرأة المقدرة على أن تمارس بحرية كل إمكانياتها.
مثل هذه التحديات الجديدة تعصف بكيان الأسرة مما يقتضي مواجهتها، والتجربة أكدت على أن التربية التقليدية عاجزة عن تحقيق التكيف مع التغير الإجتماعي، مما يستوجب عصرنة أساليب التربية لمواجهة هذه التحديات و التكيف مع العصر، وعلى التربية أن تعمل على تنمية القدرات العقلية للفرد كي يدرك ما يجري حوله في العالم الذي يعيش فيه، فعندما يكون الفرد على معرفة بما يجري حوله فإنه يستطيع أن يشخّص من الناحية الإجتماعية الظروف و المشكلات التي تواجهه، وإلا يكون ضحية الواقع الذي يواجهه بدلا من أن يسيطر عليه.
ولكن ما نراه اليوم من تغير اجتماعي سريع تزداد فيه أنواع الصراع الثقافي المختلفة بين القديم و الجديد نتيجة لثورة الإتصالات و سرعتها و كثرتها، لم يصحبها تغيير في المفاهيم و الإتجاهات نحو الآخرين مما يستدعي فهما جديدا يشمل القواعد و القيم التي تحكم العلاقات المختلفة بين الأفراد وبين المجتمعات بعضها ببعض، وواجب التربية أن تهيئ الفرص للأطفال و الشباب و الكبار كي يشاركوا في أعمال تعيد بناء الأفكار و الإتجاهات حتى تصبح صحيحة لتحقيق التضامن الإجتماعي في فترة تحكمها العلاقات المعقدة دائمة التغير.
كما أن مسؤولية التربية تكمن في عملية إعادة البناء الإجتماعي، و إعادة الفحص المستمر للآراء و الأفكار و المعتقدات و المؤسسات الإجتماعية، أي للتراث الثقافي في ضوء المشكلات الجديدة و الظروف الجديدة، إذ المواطنة في مجتمعاتنا تتطلب فهما عقليا، وإلزاما خلقيا قائما على الأخلاق، ونوعا من بنائية الشخصية، وبذلك لا تعزل التربية عن المجتمع و تغيره الثقافي، بل تعمل على إكساب الأفراد قدرتهم على مواجهة مشكلاتهم الإجتماعية بحزم و جرأة يتمثلان في إعادة فحص و بناء أفكارهم و قيمهم لتناسب التطور الجديد، و التوفيق في تأدية الأدوار الأسرية باحترام متبادل، و علاقات الصداقة، واتخاذ القرارات، و تقبّل العمل مع الآخرين، وفي مقابل ذلك ضرورة إنشاء مؤسسات نفسية للاستشارة و التوجيه و العمل على مساعدة الأسرة على تجاوز مشكلاتها، كل هذا من شأنه أن يؤدي إلى نجاح الحياة الأسرية في مواجهة تلك التحديّات. و بذلك يمكن القول أن الأسرة كمؤسسة اجتماعية يحكمها نظام ثقافي ومنظومة قيمية، تتأثر بما يحدث في المجتمع من تغير و تطور كما تؤثر فيه، ولها صلة وثيقة بمختلف أنظمة المجتمع الأخرى السياسية و الإقتصادية و تعمل في توافق معها.
ثم كيف يتأتّى للعمل أن يرفع من شأن تلك المكتسبات و القيم في ضوء تحدي العولمة؟؟
II-
* عرض وضعية مشكلة:
لنتأمل هذا الحوار الذي جرى في مدرج الجامعة بين أستاذ الإقتصاد (أ) و أحد طلابه (ط):
- (ط): لماذا تأخرنا نحن و تقدم غيرنا، ونحن نملك من الثروات ما لا يملكه غيرنا؟
- (أ): امتلاك الثروات لوحده لا يكفي لتحقيق التقدم، بل يجب استغلالها عقلانيا..
- (ط): تقصدون غياب قوانين اقتصادية صارمة تنظم النشاط الإنساني المنتج ووسائله؟
- (أ): نعم هذا الذي قصدته بالتحديد، فتنظيم الاقتصاد واحد من أسباب تقدم غيرنا،
- (ط): لكنهم جرّبوا نظامين اقتصاديين ، النظام الرأسمالي و النظام الإشتراكي، ثم اكتفوا بأوّلهما وقالوا أنه في طريقه إلى الأحادية العالمية، فأي منهما أجدى و أنفع لأمتنا؟
- (أ): مثل هذا السؤال ، كمثل سائل احتار، وهو يرى ابنه الشاب يعاني البطالة و سوء الحال: أيعطيه مصروفه اليومي فيدفع عن العوز و الحاجة ، ام يمنعه إياه فيدفعه إلى البحث عن عمل فيه معاشه و مستقبله؟ هل يتعامل معه برعاية الأب وعاطفته، أم بخلق الناصح و صرامته؟
- تعليق على الوضعية:
تستوقفنا في الحوار ثلاث محطات لها صلة عضوية بتطور نظم الإقتصاد الحديث، وانعكاساتها الراهنة على قيمنا المحلية، والقسط الذي ينبغي أن نساهم به فيها كقوة فاعلة:
* فأول ما ينبغي الإعتراف به ذلك التفوق الذي بلغه الاقتصاد الإنتاجي في البلاد الغريبة نتيجة انتهاج سياسات أثبتت فعاليتها ومنها الإستغلال العقلاني للثروات. و بالمقابل ، فبالرغم من امتلاكنا نحن لمعظم تلك الثروات فإنها تبقى تدر علينا أموالا ولا تدر علينا تنمية و تقدما.
* ثم أن الغرب قدّس منذ نهضته الحديثة العمل كقيمة إنتاجية، و ثبّتها بقوانين صارمة ، و نظر لها بمبادئ أفضت إلى نظم اقتصادية تكاد تكون مادية صرفة، وروّج لهذه النزعة الماديّة على نطاق واسع مما كان له الأثر السيئ على موروثنا الأخلاقي و معتقداتنا الروحية.
* ومع ذلك فإننا نجد أنفسنا في مفترق طرق يتحتّم علينا فيه أن نختار بين الأخذ بالإقتصاد الموجّه و الأخذ بالإقتصاد الحر، وأن نقرّر إما الانكفاء إلى تراثنا الماضي نستقي منه نظم معاشنا، او الإرتقاء بهذا التراث في عملية اندماج حضاري ضمن عولمة اقتصادية شاملة.
إن هذا التحليل يؤدي بنا منطقيا إشكال من شقيّن: أولا، كيف قدّر للعمل أن يصل بالنظم الإقتصادية إلى ما وصلت إليه من تقدم و رفاه في عصرنا الراهن؟ و ثانيا، كيف يتسنّى لنا بفضل إعادة تقويم العمل، انطلاقا من مكتسباتنا التراثية، أن نجابه تحديّات العولمة و انعكاساتها الحالية و المستقبلية؟
- أوّلا: من العمل إلى الإقتصاد (المبادئ والنظم):
من نافلة القول أن العمل ضرورة إنسانية و اجتماعية لا حيوانية من حيث أن الإنسان مدني بالطبع، والحضارة المدنية تقوم على التقسيم الإجتماعي للعمل الذي يرتكز على التعاون بين الأفراد، و يتّم على سند من استغلال الطبيعة بما يؤثر على نوع العمران و أحوال الناس فيزيد منافعهم العامة. وإلى هذا الحدّ نتساءل: كيف تطور مفهوم العمل؟ وما أهمّ نتائجه؟
1- تطوّر المفهوم وإفرازاته الإقتصادية:
إن المجتمعات البشرية في بداية تكوينها كانت تعيش على الأغلب لونا من الإقتصاد البدائي المقفل الذي يعني قيام كل عائلة في المجتمع بإنتاج كل ما تحتاج إليه، دون الإستعانة بمجهود الآخرين، وانصبّ مجهودهم على استغلال مختلف الموارد الطبيعية، كاستخراج المعدن من الأرض و قطع الخشب من الأشجار إلى غير ذلك من المواد التي حصل عليها الإنسان من الطبيعة بما يلزم لإعاشة الأفراد، وليس للأفراد إلا إشباع حاجاتهم بصورة منعزلة و بسيطة.
وقد ارتمى الفكر الإقتصادي في أحضان الفلسفة عند الإغريق قبل الميلاد، فكان جزءا لا يتجزأ من المجتمع المنظم في صورة دولة المدينة، وتركز أساسه في النشاط الزراعي الذي لم يكونوا يساهمون فيه، وإنما استخدموا العبيد الذين يخضعون لسيطرتهم. لكن النشاط الزراعي لم يف بحاجيات المواطنين، فكان لزاما اللجوء إلى النشاط التجاري و الصناعي.
ولما جاء الإسلام غيّر من النظرة إلى الشغل وأضفى عليه الجانب الإنساني الذي يحفظ كرامته و يصون قيمته. ومن ثم أصبح الشغل عبارة عن مجهود يقوم به الإنسان لإرضاء ربّه و مجتمعه، وقد انفرد الإسلام بذلك دون سائر الديانات السماوية و الوضعية الأخرى.
إن هذا التطور التاريخي الهام أفرز آثارا اقتصادية مما يستدعي الوقوف عند أبرزها:
أ)- الثروة الإنتاجية: وتمثل ذلك في المنتجات وما لزم منها لضمان استمرارالإنتاج، أي مجموع ما يوجد تحت تصرف المجتمع من قيم استعمال بفعل تراكمية الإنتاج الزائد عن الحدّ الضروري لتلبية الحاجة الحيوية للإنسان في معاشه.
ب)- ملكية الفرد و الجماعة لوسائل الإنتاج: إن الملكية القائمة على أساس العمل (سواء كانت خاصة أو عامة) تعبّر عن ميل طبيعي في الإنسان وعن توجّه مبرّر في المجتمع إلى تملّك وسائل العمل وما ينتج عنها، و بذلك تكون الملكية القائمة على العمل حقا للفرد والمجتمع.
ج)- المبادلة و تقسيم العمل: إن المبادلة بدأت على الصعيد الإقتصادي حين تنوعت حاجات الإنسان و نمت و تعدّدت السلع التي يحتاجها في حياته، و أصبح كل فرد عاجزا بمفرده عن إنتاج كل ما يحتاج إليه من سلع، فاضطر المجتمع إلى تقسيم العمل بين أفراده.
إلا أن عمليات تملّك و مبادلة الثروة الإنتاجية احتاجت إلى طريقة يتفّق عليها تكون محكومة بمجموعة من الأفكار و القيم شكّلت لاحقا-وفق نمط معين- مجمل المذاهب و النظم الإقتصادية المعروفة في العصر الحديث.
2- النظم الإقتصادية و توجّهاتها:
إن المعالجة المتوازنة للأنظمة الإقتصادية لابد أن تقوم على تحديد الخصائص الجوهرية لطريقة الإنتاج من حيث نوع علاقات الإنتاج السائدة، وما يرتبط بها من هدف مباشر للنشاط الإقتصادي ، وطريقة أداء الإقتصاد داخل الدولة، و ثمة نظامان اشتهرا في العصر الحديث هما:
أ)- الإقتصاد الرأسمالي و تقديس الحرّية: علاقة الإنتاج فيه تقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج باعتبارها القاعدة العامة التي تمتد إلى كل مجالات الثروة المتنوعة. وعلى هذا الاساس يؤمن بحرية التملك، وتسمح للملكية الخاصة بغزو جميع عناصر الإنتاج من : الأرض و الآلات و المباني و المعادن، وغير ذلك من ألوان الثروة، ويتكفل القانون في المجتمع الرأسمالي بحماية الملكية الخاصة و تمكين المالك من الإحتفاظ بها. و يلاحظ أن شكل الملكية الخاصة يتغيّر مع تطور طريقة الإنتاج الرأسمالية إذ تم الانتقال من الملكية الفردية (ملكية فرد أو عائلة) نحو ملكية المجموعات، والإنتقال من المشروعات الفردية إلى أنواع مختلفة من الشركات المساهمة . كما تفسح الرأسمالية المجال لكل فرد حرية استغلال ملكيته على الوجه الذي يروق له والسماح له بتنمية ثروته بمختلف الوسائل، إذ ما من أحد أعرف منه بمنافعه الحقيقية، ولا أقدر منه على اكتسابها. فتصبح السوق والأثمان، كآلية تنسيق في الإقتصاد، ذات أداء تلقائي، والرأسمالي يتخذ القرارات المتعلقة بما ينتجه و الكمية التي ينتجها، بعدد العمال اللازم استخدامهم. ومن ثم على الدولة أن لا تتدخل حتى لا تعيق النشاط الإقتصادي بل عليها فقط حماية الملكية الفردية و ضمان الحرية باعتبار حرية الإنسان في الحقل الاقتصادي بمختلف مجالاته هي الأساس الذي تنبثق منه كل الحقوق والقيم.
تعقيب: ترتبط الرأسمالية بالتوافق بين مصالح الفرد التي يندفع إلى تحقيقها بدوافعه الذاتية، ةمصالح المجتمع التي يتوقف عليها كيانه العام ، فالإعتقاد بهذه الفكرة يجعل من الضروري على المجتمع أن يطلق الحرية للفرد ليفسح المجال لدوافعه الذاتية أن تقوده إلى تحقيق مصالحه الخاصة وهي بدورها تؤدي بصورة آلية إلى توفير المصالح العامة ومن ثم تصبح الحرية وسيلة لضمان ما يتطلبه المجتمع من خير و رفاه، كما أنها تمثل أفضل قوة دافعة للقوى المنتجة، وأكفأ وسيلة لتفجير كل الطاقات و الإمكانات و تجنيدها للإنتاج العام. ثم إن مبدأ التنافس الذي طال وجوده وامتدت حياته هو بلا شك خير وسيلة للحصول على مردود اجتماعي في أعلى طبقاته، كما تعتبر الحرية الإقتصادية بوجه عام حقا إنسانيا أصيلا، وترجمة عملية للكرامة البشرية أي تحقيق لإنسانية الإنسان ووجوده الطبيعي الصحيح، وبهذه الحقوق و القيم يتحقق المجتمع الإنساني المزدهر.
غير أن ثمة تناقضا رئيسيا في الرأسمالية يتمثل في أن المالك يشتري من العامل قوة عمله و لكنه يتسلم منه العمل نفسه، فالعامل هو الذي يخلق القيمة التبادلية كلها، ويضطره إلى التنازل عن جزء من القيمة التي خلقها وهذا ما يعرف بفائض القيمة. وعلى هذا الأساس يقوم الصراع بين الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج و الطبقة العاملة. و العملية الإنتاجية تتصف بالطابع الإجتماعي من خلال تقسيم العمل، في مقابل ذلك نجد عملية التوزيع لها الطابع الفردي وهذا ينطوي على تناقض يقوم عليه استغلال الفرد للجماعة، ثم أن الحرية التي نادت بها الرأسمالية مجردة من كل القيم الخلقية و الروحية، فهي لا تعترف بضرورة هذه القيم لضمان مصلحة المجتمع بل يمكن الإستغناء عنها عن طريق توفير الحريات للأفراد و لا ضرورة-بعد هذا- إلى إرهاق صاحب المشروع بتربية خلقية معينة، وترويضه على القيم الروحية ليجعل إشباع الحاجات الإنسانية بأقل نفقة ممكنة ".. فلا يتحدد الإنتاج بمقدار الحاجة إليه، بل بحاجة الراغبين الملحة إلى المال، وتبقى الحاجات الرئيسية في الحياة عطشى لا تروى ، بينما يتمتع أصحاب الأموال بمتع فائضة زائدة فلا تحل إلا الحاجات التي يدفع ثمنها ، وتزيد في دخل المتمولين وفي ذلك من الظلم ما فيه".
تبين لنا إذن من خلال نظرة واقعية إلى التاريخ التطبيقي للرأسمالية أن جنايات هذه الحرية الرأسمالية لا تعدّ ولا تحصى، فقد رفضت كل التحديدات الخلقية و الروحية في مجرى الحياة الإقتصادية أولا، و في المحتوى الروحي للمجتمع ثانيا، وفي علاقات المجتمع الرأسمالي بغيره من المجتمعات ثالثا، وهكذا ساد الصراع في سبيل البقاء بدلا من روح التعاون و التكافل، ونتج عن هذا النظام الإقتصادي في مرحلة ما مجتمع إنساني بلا إنسانية.
ب)- الإقتصاد الإشتراكي و تحقيق الحاجيات الإجتماعية: تزعم الإشتراكيون الدعوة إلى نظام اجتماعي جديد و قيادة الإنسانية إلى تحقيقه، حيث رأى أن تهديم التناقضات القائمة في المذهب الإقتصادي الرأسمالي، لا يتم إلا من خلال إزالة الطبقية و استبدال الملكية الفردية بالملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، و ترتب على الإزدياد المستمر للطبيعة الإجتماعية لعملية الإنتاج أن أصبح من الصعب-أن لم يكن من المستحيل- إسناد ناتج معين إلى شخص معين بالذات و الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج في المذهب الإشتراكي تعني سيطرة المجتمع على وسائل الإنتاج على نحو يمكن من استخدام الموارد الإنتاجية استخداما يحقق مصلحة غالبية المجتمع، هذه الطبيعة الجماعية لملكية وسائل الإنتاج تعطينا نمطا لتوزيع الناتج الإجتماعي بين من ساهموا في إنتاجه، ومن ثم يصبح الأصل في الإنتاج الإشتراكي أنه إنتاج يتكيف وفقا للحاجات الإجتماعية وليست الحاجات الفردية المرتبطة بقدرته الشرائية كما هو الحال في الرأسمالية، لكن إشباع الحاجات الاجتماعية في فترة زمنية معينة يتطلب تحديدا لها وهذا لا يتم غلا بتخطيط مركزي يتمثل في اتخاذ مجموعة من الوسائل تهدف إلى توزيع الموارد الإنتاجية بين الإستعمالات المختلفة على نحو يمكن للإقتصاد من تحقيق أهداف معينة تختلف وفقا لمرحلة التطور التي يمر بها، وبما يضمن التوازن بين الإنتاج و الاستهلاك.
تعقيب: إن النظرة الأولية تبين الاختلاف بين المذهب الرأسمالي و المذهب الاشتراكي من خلال نظرتهما للفرد و المجتمع، فالأول مذهب فردي يقدس الدوافع الذاتية، أما الثاني فهو مذهب جماعي يفني الفرد في المجتمع بالإضافة إلى ذلك نجد الإشتراكية بخلاف الرأسمالية تقتل في الفرد روح المبادرة الفردية و تعيق تفتح المواهب. و الواقع أن كليهما يعتمد على دوافع ذاتية و أنانية، ويرتكز على نظرة مادية مع إهمال للقيم الأخلاقية بحجة أن التطور الإقتصادي محكوم بقوانين ضرورية لا حاجة فيها لمثل هذه القيم، والإبتعاد عن الأساس الأخلاقي في هذين النظامين هو الذي يقودنا إلى محاولة البحث عنه في المذهب الإقتصادي الإسلامي.
ج)- الإقتصاد الإسلامي و التكافل الإجتماعي: يتألف الاقتصاد الإسلامي من أركان رئيسية يتحدد وفقا لها محتواه المذهبي. وأولى هذه الأركان مبدأ الملكية المزدوجة الذي يقرّر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد أي: الملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة، ولكل شكل من هذه الأشكال الثلاثة حقلها الخاص الذي تعمل فيه. هذه الأشكال من الملكية في الإسلام تفترض وجود حرية محدودة بالقيم المعنوية و الخلقية، فيسمح للأفراد بممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم و المثل التي تجعل منها أداة خير للإنسانية كلها، هذا التحديد الذاتي للحرية انعكس إيجابا على المجتمع الإسلامي من خلال آثاره الكبيرة التي تجلت في النفس البشرية، ومنحها رصيدا روحيا زاخرا بمشاعر العدل و الرحمة و اجتثاث دوافع الظلم و الفساد منها. أما التحديد الموضوعي للحرية، فيتجلى من خلال ما كفلته الشريعة في مصادرها العامة من منع و تحريم الأنشطة المعيقة عن تحقيق المثل و القيم التي يتبناها الإسلام، كما كفلت الشريعة مبدأ إشراف وليّ الأمر على النشاط العام في قوله تعالى: "يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم". فدل ذلك بوضوح على أن السلطة العليا لها حق الطاعة و التدخل، لحماية المجتمع و تحقيق التوازن و العدالة الإجتماعية التي ترتكز في الإقتصاد الإسلامي على التكفل الإجتماعي، كفالة بعضهم لبعض.
فدعوة الإسلام إلى التكفل من جهة، ومنع الإسراف من جهة أخرى يحقق التوازن الإجتماعي كركن أساسي للعدالة الإجتماعية بأن يكون التوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة لا في مستوى الدخل. وبذلك فهو اقتصاد أخلاقي ينظر إلى تلك الغايات التي يسعى إليها بوصفها معبّرة عن قيم عملية ضرورية التحقيق من الناحية الخلقية، و لايستمد هذه الغايات من ظروف مادية و بشروط طبيعية مستقلة عن الإنسان ذاته، كما أن الوسائل التي بها تتحقق هذه الغايات ليست مجردة عن الدافع الخلقي، فالإسلام بهذا المعنى لا يقتصر في مذهبه الإقتصادي على تنظيم الوجه الخارجي للمجتمع، وإنما ينفذ إلى أعماقه الروحية و الفكرية.
من كل ما سبق يمكن القول أن الرأسمالية اعتمدت في تنظيمها للاقتصاد على أسس مادية طبيعية على اعتبار أن الحياة الاقتصادية خاضعة لقوانين موضوعية ثابتت، وأن الاشتراكية ردّت في الأساس التنظيم الإقتصادي إلى قوانين المادية لتاريخية التي تحكم تطور المجتمعات، أما الإقتصاد الإسلامي فالصفة الأخلاقية صفة جوهرية تشع في كل تفاصيله و خطوطه العامة و بالتالي فهو يهدف إلى ترقية الإنسان روحيا و ماديا، لكن ابتعاد المجتمع المسلم منذ أمد بعيد عن الإجتهاد في تطوير الإقتصاد الإسلامي قلّل من أهميته في الواقع المعيش، ثم أن التحوّل التاريخي أفرز ريادة سريعة للرأسمالية ليس لها مثيل، خاصة على المستوى الإنساني، مما دفع إلى الضغط نحو عولمة نموذجها، وذلك من أخطر مشكلات و تحديات العصر الراهن.
- ثانيا: قيم العمل وتحديّات العولمة:
1- قيم العمل في أبعاده الإنسانية:
لننظر مليّا فيما قرّره ابن خلدون في مقدمته حينما قال: ".. أن الكسب الذي يستفيده البشر إنما هو قيم أعمالهم، ولو قدّر لأحد أن يكون عطلا (أي بطّالا) عن العمل لفقد الكسب بالكلية، وعلى قدر عمله و شرفه بين الأعمال و حاجة الناس إليه يكون قدر قيمته، وعلى نسبة ذلك نمو كسبه أو نقصانه. "
من ذلك يتبين أن العمل باعتباره نشاطا إنسانيا لا يقتصر على مجرد توفير الحاجيات المادية بصورة آلية بقدر ما هو مجهود واع يختلف عن مجهود الكائنات الأخرى ، فالإنسان كائن مفكر، يعي تضاده مع الطبيعة، وهو لا يأخذ من الطبيعة فحسب بوصفها المشبع لحاجاته، بل أنه واع عندما يبذل الجهد بما يتركه ذلك من تأثير فيه، إذ هو يتصور مقدما النتيجة التي سيوصله إليها عمله، والكيفية التي يبذل بها هذا العمل، ويتبع لتحقيق هذه الغاية الوسيلة المناسبة، فالإنسان بهذا المعنى بواسطة عمله يغيّر قوى الطبيعة فيجعلها أقل بدائية و أكثر إنسانية، في نفس الوقت يخلق منها أدوات لعمله، عن طريقها يزيد من إتقان مجهوده الواعي، فكأنه خلق بذلك من الطبيعة شيئا منه هو، فتحويل الطبيعة تحويل لنفسه، وهو يهدف بالعمل إلى أن يتحرر من العوائق الذاتية، والتخلص من الأنانية ، ويسخّره وسيلة لإبعاد القلق و الآفات الإجتماعية على أساس من التعاون، مما يجعل البعد الإجتماعي خاصية أساسية له.
نستنتج إذن أن العمل مجهود يقوم به الإنسان بوعي منه بالأسباب و النتائج، في إطار الإلزام الخلقي و الإجتماعي و ذلك من أجل تحقيق أمر نافع للفرد و الجماعة، وبهذا المعنى يكون وسيلة لرقي الإنسان المادي و المعنوي، فضلا عن أنه يعكس تطوره الإجتماعي و الإقتصادي.
2- العولمة (المشكلات و الحلول):
لقد أضحت ظاهرة العولمة الهاجس الطاغي في المجتمعات المعاصرة، فهي تستقطب اهتمام الحكومات والمؤسسات ومراكز البحث ووسائل الإعلام، وقد تعاظم دورها و تأثيرها على أوضاع الدول و الحكومات ومختلف الأنشطة الاقتصادية فيها. مما يدفعها إلى التساؤل: ما هي العولمة؟ وما هي الآثار التي تتركها؟ وكيف نواجهها؟
إن العولمة كما يعتبرها الكثيرون تمثل التدخل الواضح لأمور الإقتصاد و الاجتماع و السياسة و الثقافة و السلوك دون مراعاة الحدود السياسية للدول ذات السيادة، أو الإنتماء إلى وطن محدد أو دولة معينة، ودون حاجة إلى إجراءات حكومية، فعلى المستوى الاقتصادي، تفترض العولمة أن العمليات و المبادلات الاقتصادية تجري على نطاق عالمي بعيد عن سيطرة الدولة القومية، مما دفع بالبعض إلى النظر إلى العولمة على أنها إجراء سلبي، فالاقتصاد المعولم يقع خارج نطاق تحكم الدولة القومية، مما يزيد من إمكانات الصراع و التنافس و يزيد من دور الشركات متعددة الجنسيةو يحولها إلى شركات فوق سيطرة الدول، ورأس مال طليق بلا قاعدة وطنية محددة و بإدارة عالمية، فيؤدي ذلك إلى أن تفقد الدولة الكثير من وظائفها في المجالين المدني و العسكري. ثم أن العولمة تؤدي إلى وجود دول غنية يعيش فيها مواطنون فقراء ويعود هذا إلى ما تؤدي إليه من ضغوط شديدة على أجور العمالة شبه الماهرة وغير الماهرة، ومن الآثار الأخرى للعولمة اتجاه الدول إلى تخفيض الضرائب عن الدخل وهو ما يضطرّها إلى تقليص المزايا الإجتماعية للعمال، زكل هذا من أجل تخفيض تكلفة صادراتها، وتعزيز مكانتها التنافسية بين دول العالم و المستفيدون من العولمة هم أصحاب رؤوس الأموال. ومن جهة أخرى فإن العولمة بالمفهوم المعاصر ليست مجرد سيطرة و هيمنة و التحكم بالسياسة و الإقتصاد فحسب، بل تمتد لتطال ثقافات الشعوب و الهوية القومية الوطنية، إلى تعميم نموذج من السلوك، وأنماط من القيم و طرائق العيش و التدبير، وهي بالتالي تحمل ثقافة غربية تغزو بها ثقافات مجتمعات أخرى.
ولكن ألا يمكن أن تعمل العولمة بشكل عادل و يستفيد منها الجميع دون هيمنة؟
يرى بعض الدارسين أن ".. العولمة تفتح فرصا هائلة لتحرر الإنسانية بما تتيحه من تفاعل بين مختلف مكوناتها وتعمل على تحريره من علاقات و طاقات، وعلى تجاوزه من محابس ومراقبات أصبحت تشكل أكبر عائق أمام تقدم الشعوب، وليس هناك شك في أن التدفق الحرّ للقيم و المنتجات و المعلومات، والأفكار و المخترعات، يقدم لكل فرد على مستوى الكرة الأرضية فرصا استثنائية للتقدم و الإزدهار المادي و النفسي، كما أن خلق سوق عالمية واحدة يساهم في توسع التجارة و نمو الناتج العالمي بوتيرة أسرع بكثير مما عرفته الأسواق القومية التقليدية، ويفرز بالتالي فوائض مالية هائلة يمكن لو استغلت لأهداف إنسانية أن تغير وجه المعمورة". وبهذا المعنى تصبح العولمة وسيلة لتطور الأفراد و المجتمعات.
الآن وبعد هذا الطرح المتناقض حول العولمة، فماذا يجب فعله إزاءها؟ هل تعمل الأمم على التكيف و الإندماج فيها بكل ما يحمله ذلك من مخاطر على تراثها و قيمها و سيادتها، أم تتعامل معها بمنطق المواجهة و الصراع و الرفض المطلق؟
إن الإستفادة من العولمة يمكن أن تتحقق متى استلهمنا النموذج المطبق حاليا في لعض الأمم و الذي مكنها من أن تصبح ذات قدرات تنافسية أفضل، ويرجع هذا إلى أن إحساس الفرد بالأمان الإجتماعي في بلده و تلقيه تعليما راقيا و مواكبته لكل التطورات التكنولوجية يجعله أكثر إبداعا وإنتاجية، وأكثر إقداما على أخذ المبادرة ، هذه العوامل كلها تجعل منتجات دولها أكثر جودة و ذات نوعية متميزة في الأسواق العالمية، و النتيجة أن النموذج المذكور يثبت بشكل عملي أن الإعتماد على زيادة ضرائب الدخل على أصحاب الأعمال، ومواكبة كل التطورات التكنولوجية، ودعم الخدمات الحيوية كالتعليم والصحة، وعدم الإعتماد على الإستثمارات الأجنبية قصيرة المدى و التي تأخذ طابع المضاربة لما يؤدي إليه هذا النوع من التدفقات المالية من نوبات رواج مالي سريعة تعقبها نوبات تراجع عنيفة تمتد لفترات طويلة، وهذا هو الحاصل اليوم في معظم الأسواق العالمية، كل هذه الشروط و القيم تسمح بتحقيق التكيف مع متطلبات العولمة.
تبدو للعيان إذن، من خلال الواقع العالمي ، ضرورة أن تعمل الأمم على إنتاج و إعادة إنتاج القيم والمفاهيم التي تسمح بالإندماج و التكيف لا بطرق عشوائية، بل بخطة مدروسة دون رفضها إيديولوجيا، إذ يجب ضمان حرية الأفراد و ترك العنان لأحلامهم من أجل الإستفادة مما تتيحه العولمة إلى الحد الأقصى باعتبارها تطورا موضوعيا في العلوم و المعارف و التكنولوجيات المتقدمة يحمل إمكانات عظيمة، و إيجابيات كبيرة على الأمم كافة أن تعمل على الحصول عليها، مع مراعاة القيم و التعددية الثقافية التي تعبر عن هوية كل أمة و أصالتها.
وهل بوسع الدولة أن تراهن على تفعيل تراثها القيمي بما يواكب تحوّلات العصر؟؟
III-
* عرض وضعية مشكلة:
لنفحص الوضعية المشكلة التالية (ولها أقسام خمسة) ثم نعلّق عليها ونستنتج:
(1) سئل أرسطو: ما غاية الدولة؟ فأجاب: ".. لا يجتمع الناس من أجل وجودهم المادي فحسب، وإنما يجتمعون من أجل الحياة السعيدة ، وإلا كان تجمع العبيد أو الحيوانات عبارة عن دولة، وهذا الأمر محال لأن هذه الكائنات لا تشارك قط، لا في تحقيق السعادة ولا في تأسيس حياة تقوم على الإرادة الحرة".
(2) وسئل الفارابي: ماذا تمثل الدولة كقيمة و مثل أعلى؟ فأجاب: ".. الإنسان من الأنواع التي لا يمكن أن يتم لها الضروري من أمورها و لا تنال الأفضل من أحوالها إلا بإجتماع جماعات منها كثيرة في مسكن واحد [...] فالمدينة هي أوّل مراتب الكمالات".
(3) و طلب من ميكيافيلي (Machiavel 1469-1527) أن يحدّد وظيفة للدولة فقال: ".. إن هناك عددا ضخما من الأمثلة التي تقيم الدليل على أن الواجب يدعو، عند تأليف الدول و التشريع لها، إلى اعتبار الناس جميعا من الأشرار، وإلى أنهم ينفسّون دائما عمّا في ضمائرهم من الشر، عندما تتاح لهم الفرصة للتنفيس عنه".
(4) و سئل كيني (Quesnay 1696-1774) : "ماذا تفعل لو كنت ملكا"؟ فأجاب : "لا أفعل شيئا"! ثم سئل مرة أخرى: "ومن يتولى الحكم"؟ فأجاب: "القوانين".
(5) و ننتهي باليونان كما بدأنا بهم، فقد جاء في أسطورة من أساطيرهم ".. أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يشارك الآلهة في صفاتها. و قد حملت هذه الصفات البشر على الإجتماع في المدن، فخشي زوس (إله الآلهة عند اليونان) أن ينتهي هذا الإجتماع إلى التقاتل و الدمار، فأرسل هرمس (مبعوث الآلهة) يعلّم البشر مبادئ العدالة و الاحترام، لتكون هذه المبادئ قاعدة التآخي و التوافق في المدن. و سأل (هرمس) (زوس) إذا كان مكلفا بتعليم هذه المبادئ التي تؤلف صناعة الحكم لفئة من البشر تختص بها دون غيرها، فأجابه (زوس): بل علّمها للجميع، لأنني أودّهم أن يشاركوا جميعا في هذه المبادئ، والمدن لا يمكن أن تبقى، إذا تفرّدت فئة دون أخرى بهذه الفضائل".
- تعليق على الوضعية:
إن مدار الاهتمام في هذه الوضعية المشكلة بجميع أقسامها هو الدولة : سواء بوصفها كيانا و نظاما، أو اعتبارها وظيفة و نشاطا، ولكن في كلتا الحالتين فإن صعوبة منطقية تواجهنا، لأن الإجابات التي قدّمها أصحابها عن الأسئلة المفترضة، ولدت في مخيلتنا أسئلة أكثر إلحاحا و عنادا: هل وجدت الدولة فعلا لأجل رعاية المواطن كغاية أخلاقية ومثل أعلى للكمال الذي يتطلّع إليه؟ أم لأجل حمايته من الشرور الصادرة عنه وعن أعدائه؟ و إذا كان الحاكم لا يفعل شيئا عندما يتولى الحكم سوى أنه يسهر على تنفيذ القانون فلماذا يحكم إذن؟ ومن يضع له هذه القوانين التي ينفذها؟ أيمارس الحاكم السلطة أصالة أم نيابة و تفويضا؟ فإذا مارسها بالتفويض فمن أعطاه حق الممارسة؟ ثم ماذا تعني السلطة؟ أهي واحدة داخل الدولة أم متعدّدة؟ وإذا كانت أساليب الحكم تختلف من مجتمع إلى آخر، فهل النظام الديمقراطي هو الأصلح للبلوغ بالمجتمع الإنساني إلى مستوى الرفاهية و السعادة مما يستدعي تعميمه عالميا؟
تلك هي المسألة الكبرى التي نحاول التدرج في حلّها معا من خلال استعراض أولا طبيعة الدولة ووظيفتها ككيان أخلاقي و سياسي و ثانيا كممارسة في الحكم تقوم على مشروعية ما:
- أولا: وظيفة الدولة بين الأخلاق و القانون:
1- الأركان القانونية الأربعة للدولة: إن الدولة لا تعتبر التنظيم السياسي الوحيد، بل سبق أن انتظمت البشرية قبل ذلك في تنظيمات أقل كمالا كالقبيلة و العشيرة، غير أن هذه التنظيمات عفوية و طبيعية، أي أن أعضاءها يرتبطون على نحو طبيعي برابطة النسب سواء أكان حقيقيا أو وهميا. و الحكومة ".. هي التنظيم العملي للدولة [...] فالدولة تجريد إلى حد كبير، ولكن الحكومة واقع يدرك بالحواس. والدولة دائمة و ثابتة على حين أن الحكومة مؤقتة. وإن التغيرات في شكل الحكومة لا تعني تغيرات في استمرار الدولة". وفي الجملة يمكن النظر إلى الدولة من جهتين وظيفيتين، الأولى وهي عندما تتجه الدولة إلى الداخل من أجل التعامل مع مواطنيها، وذلك من خلال إشرافها على تنظيم العلاقات العامة داخل المجتمع، أما الثانية فهي عندما تتجه إلى الخارج للتعامل مع الدول الأخرى فتكون عضوا في مجتمع دولي يحظى بصفة قانونية و ينظر إليها كشخص معنوي اعتباري.
و الدول تتباين فيما بينها أكثر مما تتماثل، غير أن هذا لا ينفي ضرورة حدّ أدنى من المقومات المتماثلة، وهي التي تعطي للدولة وجودها، وأخصّ هذخ المقومات: السكان و الإقليم و السلطة و السيادة:
أ- السكان: إن كل حديث عن الدولة هو الحديث عن مجتمع منظم سياسيا، وهذا يعني أنه لا يمكن الحديث عن دولة إلا ونحن نتحدث عن أفراد مجتمع ينتسبون إلى هذه الدولة، سواء سميناهم شعبا أو مواطنين أو أي اسم آخر.
ب- الإقليم: إن الإقليم هو المجال الحيوي للدولة، ولهذا يمكن القول أنه لا وجود لدولة دون إقليم تسيطر عليه و معترف لها به دوليا، فتتحدّد العلاقة بين الدولة و الإقليم على أساس أنه "مجال سلطان الدولة" أي المنطقة الجغرافية التي تمارس فيها سلطتها على الأفراد.
ج- السلطة: إن الحديث في السياسة هو حديث عن السلطة، لكون السلطة جوهر أي نشاط سياسي. وتعتبر السلطة السياسية ركنا أساسيا للدولة وهي التي تميّزها عن تنظيم اجتماعي شبيه بها هو الأمّة، والأفراد داخل هذه الجماعة ليسو مجرد أعضاء، بل هم مواطنون و رعايا يخضعون لسلطة عليا و يشاركون في تسيرها.
د- السيادة: لفظ السيادة يشير إلى السلطة العليا المخولة لصنع القانون و فرضه، و لكنها لا تقتصر على استقلالية الدولة في التشريع، إذ يميّز فقهاء القانون بين مستويين من السيادة: السيادة الداخلية وهي ".. المظهر الداخلي الذي يتجلى في كونها المشرع الأعلى للشؤون الداخلية"، و أنه ".. على جميع الأفراد و الجماعات داخل الدولة أن يخضعوا لإرادتها"، و السيادة الخارجية و تعني استقلال الدولة في قراراتها و تنظيم علاقاتها مع غيرها من الدول، غير أن هذا النوع من السيادة، والذي مازالت تطالب به كثير من الدول، هو انحسار مستمر تحت ضغط العولمة الإقتصادية و السياسية التي يعرفها العالم المعاصر.
2- وظيفة الدولة من حيث هي حامية لقيم الفرد و راعية لها: إن الدولة كما تبين ليست تنظيما طبيعيا، ولا هي مصاحبة لكل اجتماع إنساني، حيث أن المجتمعات الإنسانية القديمة عرفت تنظيمات ما قبل الدولة، سواء أكانت على صورة تنظيم قبلي و تنظيم عشائري أو صورة التنظيم الذي عرفته المدينة اليونانية. ولما كانت الدولة تنظيما طارئا أصبح من المشروع التساؤل: ما هي إذن مبررات وجود الدولة؟
أ)- حماية القيم الفردية و الدفاع عنها: إن الذي يبرّر أي ممارسة سياسية تسلكها الدولة عند ميكيافلي-كما رأينا- هو حماية نفسها و حماية مواطنيها من شر المواطنين أنفسهم ومن شر الأعداء الخارجيين أيضا. وقد تحدث جون لوك أيضا عن الغاية القصوى للدولة معتبرا أنها قامت أساسا من أجل حماية الأشخاص و ممتلكاتهم و حريتهم، "..إذن فالغاية الكبرى الرئيسية من اتحاد الناس بعضهم مع بعض لتشكيل دول، ووضع أنفسهم تحت سلطة الحكومة هي المحافظة على ما يمتلكون [...] فإن كل من كانت بيده السلطة التشريعية أو السلطة العليا لأية دولة ، كان لزاما عليه أن يحكم وفق القوانين الثابتة المستقرة المعلنة للشعب و المعروفة منه". و يعتقد لوك أنه بالتخلي عن القانون يبتدئ الطغيان، فالحاكم الذي يتجاوز الصلاحيات التي أعطيت له بموجب القانون يكون قد فقد الحق في ممارسة السلطة، ولكن حماية مصالح و حريات و أمن الأفراد لا تقتصر على تطبيق القانون بل يجب أن تتدخل الدولة في حدود ما يمكنها من التوفيق بين المصالح المتعارضة للمواطنين، لأنه داخل الدولة لا توجد قوة واحدة فاعلة و مؤثرة، وهذا الوضع يحتّم وجود سلطة عليا ذات سيادة تكون فوق جميع السلطات الإجتماعية الأخرى، تلعب دور الحكم الذي يسهر على فرض احترام القانون.
ب)- غاية الدولة رعاية الصالح العام: وهذا يعني أن وظيفة الدولة لا تقتصر على ما هو سياسي بل تمتد لتشمل مجالات الحياة الإجتماعية و توفير الشروط الموضوعية للحياة الإنسانية الكريمة كما يتبين من رأي أرسطو و الفارابي. ويمكن تحديد وظائف الرعاية فيما يلي:
- الرعاية الاقتصادية: أصبحت الدولة مدعوة و بشكل ملحّ إلى التدخل في الحياة الاقتصادية للمجتمع، ".. وبقدر ما تتطور الحضارة تتجه الدولة إلى تحمل عبأ إشباع الحاجات العليا و النبيلة للمجتمع مع تحمّل مسؤولية أكبر حيال الضعفاء اقتصاديا من أعضائها"، كما أن الواقع التاريخي يؤكد هذا، حيث أغلب الدول المعاصرة تنفق أموالا ضخمة في رعاية المصالح عامة للمجتمع، كالرعاية الصحية و التربية و التعليم و الترفيه و الرياضة و السكن.
- الرعاية السياسية: و تتمثل في الهيمنة التي تطالب بها و تمارسها الدولة على مجموع أعضائها ، وذلك من مقتضيات السيادة التي هي مقوّم من مقومات الدولة، ومن الوظيفة السياسية أيضا التشريع للمجتمع، و حمايته من الأخطار الداخلية و الخارجية ، ويلزم من هذا اضطلاع الدولة بتشريع الحقوق و حمايتها.
- ثانيا: من مشروعية الحكم إلى عالمية النظام:
إن علاقة الدولة بالمجتمع تأخذ صورا مختلفة و ذلك باختلاف أنظمة الحكم و صور المشروعية فيها، و كذلك تتعدّد التصورات الفلسفية التي يتبنّاها هذا المجتمع أو ذاك حول مفهوم السلطة ووظيفتها:
1- أسس السلطة السياسية الفردية (الحكم المطلق): إن الحكم المطلق هو من أقدم صور تسيير شؤون الدولة و المجتمع ظهورا، ولعلّه أقدمها على مستوى الممارسة، أما على مستوى التنظير الفلسفي فيعود إلى العهد اليوناني أو قبله بقليل. ويعتبر هوبز من أبرز الفلاسفة الذين برّروا على نحو فلسفي ضرورة الحكم الملكي المطلقو صلاحيته في تسيير شؤون الدولة، و فرض الأمن و الإستقرار. وانطلق في تبريره هذا من فرضية: أن البشرية عرفت حالتين من الحياة الجماعية الأولى طبيعية كانت خالية من السلطة، و فيها لم يكن البشر يتحرّجون من الإعتداء على بعضهم البعض، وهو الوضع الذي أدى بهم إلى صيغة من الاتفاق يتنازلون فيها عن جميع حقوقهم لشخص أو جماعة تكون قادرة على ردّ مظالم بعضهم بعضا، و صاحب السيادة هنا- وهو الحاكم- ليس مطالبا بشيء سوى توفير الأمن لمجموع المواطنين، وكل ما يصدر عنه لايمكن اعتباره ظلما، لأن العدل و الظلم هما ما يقرره الحاكم، والذي يلاحظ على هذا النظام أنه قد لا يؤسس على الغلبة و القهر، بل على الرضا و العقد، ولهذا يحق للرعية أن تعزله في حالة واحدة، وهي عندما يعجز عن حمايتها و الدفاع عنها.
- ومن أنظمة الحكم المطلق: الحكم الديني أو (الثيوقراطي)، والحكم الإستبدادي: فكان يعتقد أن الحاكم من طبيعة مختلفة عن المحكومين فهو من طبيعة إلهية أما "..إرادته فهي سامية لأنها إرادة إلهية عليا، ثم تدرّج الأمر بعد ذلك إلى أن الله يختار الحاكم اختيارا مباشرا ليمارس السلطة باسمه من الأرض"، ثم أصبح الحاكم يختاره الشعب ولكن بتوجيه إله، وهذا الذي يعرف (بنظرية الحق إلهي)، وحكم المستبد من أنظمته أيضا: وهو حكم ينفرد فيه الحاكم بالسلطة، لكن لا يلزم عن ذلك بالضرورة طغيان، ولهذا تحدث القدامى عن المستبد العادل،و المستبد المستنير، وهو الذي لا ينشغل بمصالحه عن مصالح شعبه.
2- أسس السلطة السياسية الجماعية (النظام الديمقراطي): إن المجتمعات القديمة عرفت صورا من التنظيم السياسي الجماعي تماما كما عرفت التنظيم السياسي الفردي، ولا فرق في هذا بين مجتمع قديم و آخر جديد إلا في أساليب و تقنيات التسيير، وحدثنا التاريخ عن الحكم الجماعي في اليونان القديمة، وهو ما اصطلح عليه بالديمقراطية.
إن الأسطورة اليونانية التي عرضناها تحملنا -مرة أخرى- على التساؤل: هل الديمقراطية-مبدأ المشاركة- صناعة أم قيم؟ وإذا كانت قيما أهي مبادئ أم غايات؟ أم هي الأمرين معا؟ ومن حيث هي قيم، هل يمكن الحديث عن ديمقراطية واحدة أم عن ديمقراطيات؟ ومادام (روس) أوكل (هرمس) تعليم الديمقراطية للبشر، ألا يعني ذلك أن اليونانيين انتبهوا إلى أهمية العلم و التعليم في الدولة الديمقراطية؟ ألا تستدعي هذه الديمقراطية حظا وافرا من الوعي السياسي كشرط مسبق؟
إن الضرورة هنا تستدعي أن نحلل بعض معانيها مما له علاقة بالسلطة السياسية للدولة:
أ)- الديمقراطية المباشرة: وهي نظام من الحكم الجماعي الذي ظهر في العهد اليوناني، بعد أن كان السكان يحتكمون إلى التقاليد الإجتماعية الراسخة في حالة المنازعات و المخالفات، ساد الحكم الأرستقراطي (حكم النخبة) بين سنتي 662-561 ق.م و فيه كان النبلاء وحدهم يحق لهم المشاركة في مجلس الحكام، لكن إصلاحات قانونية وطّدت قدم الديمقراطية اليونانية وأعطت لها صورتها، وأهم ما جاءت به تلك الإصلاحات: المساواة بين جميع المواطنين و إعطاء السلطة السيادية للشعب (المواطنين) الذي يحق لجميع أفراده الحضور للمجلس و المشاركة في المداولة و أخذ القرارات، ولكن ما يجب أخذه في الإعتبار عند الحديث عن الديمقراطية اليونانية هو أنه لم يكن كل من ينتمي إلى الدولة يعد مواطنا، بل المواطن الذي له الحق أن ينتخب أو يترشح للإنتخاب، هو كل ذكر حرّ بلغ السن العشرين، و أن يكون مولودا لأبوين أثينيين، وفي حالات استثنائية كان الأثيينيون يوافقون على حق المواطنة للأجانب.
و يعتبر جان جاك روسو أبرز من أولى أهمية كبرى للديمقراطية، والذي يميز مفهوم الديمقراطية عنده، السيادة و الحرية والمساواة، فالسيد الحقيقي في الحكم الديمقراطي هو الشعب، وأن هذا الشعب لا يمكن اختزاله في جمع غفير من الناس، بل هو اجتماع بشري تراجعت فيه العلاقات التي يفرضها الواقع لتحل محلها علاقات يفرضها الحق، وهكذا يبدو الشعب كجسم أخلاقي و اجتماعي لا يقبل الإختزال، تتجسد فيهما الحرية و المساواة بمعناهما الحقيقي، أما الحرية فهي حقيقية لأن طاعة الفرد و خضوعه للقانون هو في الوقت نفسه خضوع لإرادته التي هي متضمنة في الإرادة العامة التي شرعت هذا القانون، أما المساواة فهي مساواة أخلاقية و مشروعة إذ تقررها الإرادة العامة، و يعتبر الشعب السيد الحقيقي و سيادته غير قابلة للتنازل أو التجزئ وهي مطلقة لا تخطئ لأن العقد الإجتماعي يعطي لهذا الجسم الاجتماعي سلطة مطلقة على أعضائه، والحكومة الديمقراطية في هذا المجتمع الديمقراطي ليست سوى أداة تنفيذية تنفذ ما شرع الشعب (السلطة التشريعية)، وهذا يعني أن الحكومة تخضع للقانون مثل أي عضو آخر داخل الدولة قال روسو : "..ليس تأسيس الحكومة عقدا بل قانونا، وأن الذي تودع لهم السلطة التنفيذية ليسوا أسيادا للشعب إنما موظفوه،و بوسع الشعب رفعهم أو خلعهم عندما يرغب بذلك، و المسألة بالنسبة إليهم ليست مسألة عقد على الإطلاق و إنما هي إطاعة القانون".
إن الديمقراطية ليست مجرد أسلوب في الحكم، بل هي في الوقت نفسه قيمة وثقافة تستدعي مستوى معين من الوعي و التكوين، ثم إن الديمقراطية المباشرة على النحو الذي مارسته أثينا لا يمكن تطبيقه إلا في دولة يكون أفرادها محدودي العدد، وهذا ما انتبه إليه ونبّه له روسو، ولهذا فإن هذه الصورة من الديمقراطية لم تعد صالحة للدول الحديثة التي تتميز مدنها بالضخامة و الكثافة السكانية، وتعقد النظم الإجتماعية و الإقتصادية و الثقافية، على نحو يستدعي ممن يشارك في تسير شؤون الدولة أن يكون على دراية وعلم كبيرين.
ب)- الديمقراطية التمثيلية: لما كان من المتعذر جدا ممارسة الديمقراطية المباشرة في مجتمعات كالتي نعيش فيها، فقد اخترع البشر أسلوبا آخر لتنفيذ إرادة الشعب و ممارسة السلطة باسمه، و تلك هي الديمقراطية النيابية، أي أن يحكم الشعب من خلال ممثليه الذين يختارهم عن طريق الإنتخاب.
وفي الجملة فإن الديمقراطية التي يتحدث عنها المعاصرون هي ديمقراطية (الحرية) و (المساواة)، وهذان كانا سببا في تعدّد الديمقراطيات في الزمن الحديث و المعاصر، حيث تباين مفهوم المصطلحين من فلسفة إلى أخرى، ولزم عن ذلك تباين في الممارسة الديمقراطية:
- الديمقراطية الليبرالية: وتقوم الفلسفة الليبرالية في المجال السياسي على التوفيقالمسبق بين مبدأين متعارضين، فكرة استقلال الإرادة و العقل من جهة، وفكرة وجود قانون أسمى من جهة أخرى، وهذا يثير لدينا سؤالا فلسفيا ملحّا حول علاقة الفرد بالسلطة: كيف يمكن لأشخاص كان يعتقد أن لهم حقوقا مطلقة ومتساويين (في المرحلة الطبيعية)، أن يخضعوا لسلطة سياسية دون نفي صفة الإطلاق و المساواة عن حقوقهم؟
من الضروري الفصل بين الديمقراطية كمفهوم تاريخي-كما ورد سلفا- و الديمقراطية الليبرالية باعتبارها نتاج مرحلة ظهور السوق الرأسمالية و صعود الطبقة البرجوازية، "..فالديمقراطية الليبرالية هي تزاوج بين فلسفتين مختلفتين نشأتا تاريخيا في ظروف متباينة، ولكل منهما جوهرها الخاص بها [...] هاتان الفلسفتان هما الديمقراطية و الليبرالية". وهكذا تنطلق هذه النظرة في تصورها لنظام الحكم، من نظرتها للوظيفة التي تضطلع بها الدولة، فهذه الأخيرة ليست سوى "..وسيط اصطناعي يتأسس على مطالب الأشخاص، وليست ضرورة طبيعية صادرة عن حاجات البشر و طبيعتهم الإجتماعية، حيث يتعالى الهدف على الإرادة الذاتية للأفراد، قد وجدت الدولة من أجل إشباع مطالب الأفراد، وكي تكون انعكاسا لإرادتهم". وعلى هذا النحو تكون الأولية للفرد على الجماعة، بل أن الدولة كجسم اجتماعي و سياسي أنشأها الأفراد من أجل تحقيق منافعهم.
أن السلطة من حيث هي سلطة تطالب دائما أولئك الذين تمارس عليهم نفوذها بالخضوع لسلطانها، ولكن الخضوع ليس لشخص أو لأي جهة أخرى خارجة عن إرادة الأفراد، بل الخضوع في الدولة الليبرالية هو خضوع للقانون و يجب عدم الخضوع إلا لسلطة القانون. فهذه السلطة وحدها يمكن أن توجه له الأوامر و تحده. فالليبرالية تطالب بالحرية بالنسبة لكل أشكال المراقبة الإجتماعية، باستثناء رقابة القانون، فالحرية تعني ".. أن يكون الشخص مستقلا عن كل شيء ما عدا القانون"، وهذا الأخير ليس سوى مؤسسة أقيمت لضمان الحقوق الطبيعية للأفراد، ومنع التظالم بين الناس، وهو من إنتاجهم، ولذلك يزول كل تعارض حقيقي بين الحرية و الخضوع للقانون أو طاعة السلطة.
لقد قامت الليبرالية على افتراض أساسي وهو حرية الإختيار ".. فنقلت مفهوم حرية المستهلك من مجال الاقتصاد إلى مجال السياسة، فكما تصورت نظاما اقتصاديا يقوم على المنافسة [...] تصورت أيضا نظاما سياسيا يقوم على حرية الاختيار بين الأحزاب و الاتجاهات السياسية". فالديمقراطية الليبرالية ذات ".. سلطة مفتوحة" لا تقضي على الصراع داخل الدولة، بل تؤسسه كي يتمّ في قنوات شرعية، ويلزم عن هذا أه لا بستقر أي حزب أو جماعة سياسية في السلطة على نحو دائم، وإنما تمارس السلطة على نحو تداولي، و الشعب وحده يقرر في كل مرة من يحق له أن يمارس السلطة باسمه، بحسب ما يقدمه المتنافسون من مشاريع تعد بتقديم خدمات أكبر، و يلزم من هذا أن يكون الشعب على قدر كاف من الوعي بحيث يستطيع المقارنة بين البرامج، و الكشف عما هو قابل للتطبيق، وما هو مجرد وعود تستخدم من أجل مصالح شخصية و حزبية، فالديمقراطية الليبرالية لا تجعل الدولة و الأفراد في مأمن دائم، ومن جهة أخرى فإنه لا يكفي أن تنصّ الدساتير و المواثيق القانونية على الحقوق حتى تتجسد الحرية التي يرفعها الليبراليون شعارا، بل يجب أن يمكن الأفراد من القدرة على ممارسة تلك الحقوق. ولهذا غالبا ما تكون الحرية اليبرالية حرية نصوص قانونية لا حرية واقع، ومن هذه الجهة بالذات وجه الاشتراكيون سهام النقد لهذه الفلسفة.
- الديمقراطية الاشتراكية: إن المجتمع الوحيد الذي تزدهر فيه الديمقراطية هو ذلك الذي تخلص من الطبقية، فهو وحده القادر على حل التناقضات التي ظهرت في المجتمع الرأسمالي، فبمشاركة الجميع في السلطة لا تعود الحياة السياسية حلبة صراع على نحو ما ظهر في المجتمع الرأسمالي، بل بالعمل المشترك و الإجماع تنشأ الوحدة بين أفراد المجتمع، و يشيع التعاون، وهكذا يضمن المجتمع الاشتراكي سيادة الشعب على نحو سليم، ولا يمكن لأي كان أن يتلاعب بالإرادة العامة، و تحقيق هذا المجتمع لا يكون في البداية عن طريق الاقتراع العام، بل يجب بشيء من القوة أن ينتقل من مجتمع برجوازي إلى مجتمع عمالي، ولم ينكر الاشتراكيون الطابع الديكتاتوري للدولة الأشتراكية الناشئة، بل يرونه ضرورة تضمن الوصول إلى مجتمع ديمقراطي حقيقي هو المجتمع الشيوعي، والمثير للحيرة كيف يمكن الجمع بين الديكتاتورية والديمقراطية في نظام واحد؟
بالنسبة للاشتراكيين الأمر لا يستدعي الدهشة، لأن الديمقراطية هي حكم الشعب وإن تعذر فحكم الأغلبية، والأغلبية هم العمال، ولما كان البرجوازيون لا يمكنهم قبول أن يؤول الحكم إلى العمال، لزم اللجوء إلى القوة ، والحد من الحريات لتحقيق ذلك ، والدولة عند أغلب المفكرين الاشتراكيين ليست ضرورة تحتمها الطبيعة البشرية، بل هي شر يجب زواله، ولهذا فإن الدولة في المرحلة الاشتراكية تضعف لتزول بعد ذلك في المرحلة الشيوعية، ويتحقق المجتمع الديمقراطي. وينظر الاشتراكيون للشعب على أنه وحدة متجانسة تجمع بينهم الظروف المادية، ولهذا السبب لم تكن فكرة التعددية واردة في الفكر السياسي الاشتراكي، وعلى هذا النحو سيكون متحدا بالإضافة إلى كونه متجانسا و يمارس السلطة على نحو ديمقراطي من خلال مناقشة القضايا العامة داخل تنظيم الحزب، ولهذا لم يكن هناك مجال للمنافسة السياسية أو فكرة التداول على السلطة، ولا معنى للتداول على السلطة إذا كان الشعب برمته يحق له ممارسة السلطة-طبعا داخل جهاز الحزب الواحد- و يلزم من هذا ألا مجال لحريات سياسية عامة و خاصة شبيهة بتلك المعروفة في الديمقراطية الليبرالية.
ولكن الفلسفة الإشتراكية كغيرها من أنماط الفكر الإنساني لم تكن ثابتة، فقد عرفت انتقادات و تحولات، على نحو ما حدث بظهور (الديمقراطية الاجتماعية)، بل ".. إن للبشر تنوع مدهش في أهوائهم و أفكارهم، وتعقد الحياة الإنسانية لا يسمح باختزالها، بصورة آلية و فضّة ، إلى صيغة اقتصادية". لكن في الوقت نفسه لا يمكن إنكار أهمية العوامل الإقتصادية في الحياة الاجتماعية و السياسية، والديمقراطية الحقيقة لا تقوم على الحرية وحدها أو المساواة فقط، بل بهما معا، ولا تتحقق القيمتان إلا في اجتماعهما.
3- الديمقراطية بين القيم العالمية و الخصوصيات المحلية:
جاء في موسوعة أغورا (AGORA)ما نصه: "منذ سقوط جدار برلين، صار كثير من الناس يظن أن الديمقراطية ستفرض نفسها بالتدريج في جميع دول العالم. وهذا سيكون على نحو ما، هو نهاية التاريخ، هذه النهاية التي تقترب منها البشرية، من خلال التزايد المستمر للأنظمة الديمقراطية. و إذا حدث الأمر على هذا النحو، فهل في ذلك ما يبعث على الابتهاج؟ وهل الديمقراطية الليبرالية، والتي نتحدث عنها هنا، هي أفضل نظام سياسي؟ وهل ثمة ما يؤكد أنها الصورة الأكثر طبيعية لنظام الحكم؟ وهل الديمقراطيات الغريبة الراهنة في مأمن من انهيار مشابه لذاك الذي صارت إليه الديقراطية اليوناني"؟
إن سقوط جدار برلين هو رمز لنهاية الحرب الباردة ودخول العالم في مرحلة تسيطر فيها قوة عظمى واحدة (القطبية الأحاية)، وهذا الوضع العالمي الجديد فتح مناخا سياسيا جديدا، أصبحت فيه الديمقراطية شبه إلزام دولي، حيث أصبحت دول كثيرة (تنتمي إلى ما كان يعرف بالعالم الثالث) مدعوة لتبني النهج الديمقراطي وهذا يثير جملة من التساؤلات الفلسفية و الأخلاقية لعل أبرزها: كيف لدولة ذات سيادة أن تكون مدعوّة دائما للخضوع لنظام و قوانين دولية تهيمن عليها القوى العطمى في العالم؟ بل كيف لدولة ذات سيادة أن تحافظ على خصوصيتها الثقافية و استقلالها السياسي، إذا كان ما يعرف بالمجتمع الدولي يفرض على الدول الأعضاء نموذجا من الحكم؟ أو يفرض عليها صورة من القيم؟
إن العلاقات الدولية المعاصرة تعاني من أزمة أخلاقية يصعب تجاوزها بمجرد سن قوانين دولية حتى و إن كانت هذه القوانين تجسد قانون المواطن العالمي، ثم إن القول بفكرة المواطن العالمي يجعل من فكرة السيادة متناقضة لأن دعوة الدول للخضوع لهذا القانون و تجسيده في تشريعاتها تجعل السيادة لهذا القانون وليس لسلطة الدولةإن الذي يجعل كثيرا من الباحثين يتحدثون عن إمكانية تطبيق الديمقراطية بل ضرورة هذا التطبيق، هو أن كثيرا من القيم التي جاءت بها الديمقراطية لا تتنافى مع ما في قيمنا التراثية، وعدم التنافي شرط كاف لقبول الوافد الدخيل و تكييفه ليتّسق مع القيم السائدة في المجتمع.
ولكن الديمقراطية هنا ليست طريقة في الحكم فقط، بل ديمقراطية مؤسسة على القيم، فنحن إذن أمام قيم يفترض في الديمقراطية أن تكون تجسيما لها، وهذه القيم هي الحرية و العدالة و الأخوة و المساواة، وهي قيم غائية يتوق إليها الناس أكثر مما هي حقائق محسوسة في حياتهم، ولذلك يختلف الناس في تصورها و تطبيقها. ولكن إذا كان التفكير في الديمقراطية بدأ مع بواكير عصر النهضة الحديثة ، فلماذا تأخر التطبيق كل هذا الوقت؟
السبب في ذلك أن التفكير فيها كان على مستوى الوسائل و القيم الديمقراطية ولم يكن في الشروط التي يجب إعدادها لقيام مجتمع ديمقراطي، فالديمقراطية ليست مجرد أسلوب في الحكم، ولا هي جملة من القيم، بل هي قبل هذا و ذاك شعور الفرد نحو نفسه ونحو الآخرين، وهي جملة الشروط الاجتماعية السياسية اللازمة لتكوين الشعور الديمقراطي في الفرد، فلا يمكن قيام مجتمع ديمقراطي أو حكم ديمقراطي ما لم يكن هناك أفراد داخل المجتمع يملؤهم الشعور الديمقراطي.
و في الجملة فإن الديمقراطية ليست أسلوب حكم بموجبه يختار الشعب من ينوب عنه فحسب، بل هي في الأساس ثقافة و شعور، ومن هنا تبدو بكل وضوح ارتجالية تلك المحاولة التي تريد إنشاء الوضع الجديد في بلادها، بالقياس على المنوال الذي تستعيره من بعض البلاد ذات التقاليد الديمقراطية العريقة، إن هذه الاستعارة تكون تارة لازمة و لكنها بكل تأكيد وحدها غير كافية، إن لم تصاحبها الإجراءات المناسبة لبث ما يستعار في نفسية الشعب الذي يستعيره، فالشعور الديمقراطي، والذي على أساسه يمكن قيام مجتمع ديمقراطي و نظام حكم ديمقراطي، هو ذلك الذي ينقل الفرد داخل الدولة من فرد تابع لسيد أو ملك، إلى مواطن صاحب إرادة حرّة و مستقلة و يحظى بالتكريم الإنساني.
وقد عرفت حضارتنا و تراثنا هذا النوع من المواطنة، تلك التي تجعل المواطن قيمة في ذاته فيعامل من طرف الحاكم كغاية لا كوسيلة، وإن الثقافة التراثية تمدّنا بمضدّات حيوية نواجه بها النزعات المنافية للشعور الديمقراطي، ولهذا يجب تفعيل هذه القيم التي تساعد على تجسيد الديمقراطية في حياة الفرد والجماعة، لكن دون الانغلاق على الذات، بل بالأنفتاح على التجارب الإنسانية الرائدة في هذا المجال، إذ في بعض الأحيان تكون استعارة بعض القيم و الوسائل من الأمم المعاصرة ضروريا لكن بتوفير الشروط الذاتية و الموضوعية المستمدة من تجربة الأمة ذاتها، وبهذا فإن قيمنا التراثية تجتمع فيها مزايا الديمقراطية السياسية و الديمقراطية الاجتماعية لكونها تقرّ بالحريات الفردية و الجماعية، وتشرّع القواعد التي توفر الشروط الموضوعية لتجسيد هذه الحريات، كالتكافل الاجتماعي و العدالة و المساواة.
حل المشكلة
خاتمة:
نخلص مما تقدّم إلى أن قيمنا الخلقية المستمدة من تراثنا الحضاري و مخزون العقيدة في الذاكرة الجماعية، باعتبارها تتخلل كافة تنظيماتنا الإجتماعية بدءا من علاقاتنا الأسرية وصولا إلى نظمنا السياسية و الإقتصادية، تبقي منهلا نتشرّب منه و نبراسا نهتدي به كلما كنا في حاجة إلى التعامل مع تطورات العصر التي تلاحقنا في كل يوم، كما تظل هذه القيم نفسها في حاجة دائمة إلى إعادة قراءة عميقة ومتأنية حتى تنشط تفاعلاتنا كسلوك جماعي منظّم من جهة، ولأجل تكييف مواقفنا مع ما يستجد في الخارج من تحولات كبرى، على أساس من التوازن و الاعتدال و الوسطية الفاعلة بين تراثنا الذي نعتز به، ومكتسباتنا الثقافية العالمية التي نتطلع إلى الإندماج فيها، وذلك رهان لابد من كسبه.