ملخص الدرس / الثالثة ثانوي/فلسفة/الفن و التصوف بين النسبي و المطلق/في الآثار الفنية و التجربة الذوقية

المشكلة الأولى

كيف يمكن إثبات القول بأن الآثار الفنية ليست مجرد تعبير عن الجمال، وبأن التجربة الذوقية ليست مجرد تجربة حميمية؟

مقدمة: طرح المشكلة

I- ماذا عن التجربة الذوقية الجمالية؟ وماذا عن تطور الأثر الفني المبدع كتعبير عنها؟

-أولا: الذوق الجمالي كتجربة إنسانية

-ثانيا: تطور المنتوج التعبيري في الفن

II-كيف يمكن إثبات أن هذه التجربة-مع سموّها- لا تصوّر وحدها الأثر الفني المبدع؟

-أولا: الإبداع الفني و الإلهام

-ثانيا: الإبداع الفني وإرادة العقل

-ثالثا: الإبداع الفني و الخبرة المتعلمة

III-ثم كيف يمكن اعتبارها، ليس فقط تجربة ذاتية و حميمية، بل كذلك اجتماعية ولها أبعادها الحضارية؟

-أولا: من حميمية الفرد إلى عمومية المجتمع

-ثانيا: من حميمية الذوق إلى روحانية الحضارة

خاتمة: حل المشكلة

 

 

طرح المشكلة

مقدمة: 

مما لاشك فيه أن التجربة الذوقية الجمالية وما تؤدي إليه من أثر فنّي، تحمل لنا الشعور بتسامي الإنسان و تحرّره من حتمية الطبيعة المادية من عدّة وجوه، الشعور بانفعال الوجدان أمام فكرة الانسجام و التناسق في الاشياء الطبيعية، و الشعور الذي يعمل به الفنان ليبدع منها أشياء جديدة، و الشعور المنفعل الذي يتقبل به متذوق الفن معطيات ذلك الإبداع.

إن الإنسان الذي يتحرر من عبودية حدود العالم، و يشعرنا بجذوة هذا التحرر في أعماقنا، لا شيء عنده غير الفن منفذا للهروب من صدمة الواقع، هذا خو شعار الفن الحامل للواء التسامي الإنساني في كل العصور، وعندما كان الفن المجال الأرحب الذي مكّن من ترجمة ذلك التحرر، كان الفنان أوّل من عبر عن هذه النزعة و جسّد تطلعاته خلالها، فالفن الذي عرفه البدائي محاكاة للطبيعة في مظهرها الطاغي، قد تجاوز هذا الدور المحدود،بعد أن استلم الإنسان الحديث قيادة الإبداع و القدرة على تغيير توجهات الطبيعة ذاتها، و ارتقى من رسم الحيوانات على جدران الكهوف إلى التحكم بموجات الأثير و تحميلها الصور و الكلمات و النوتات الموسيقية، وهذا ما لم يكن مقدّرا لولا جهوده في إدراك مقوّماته، وتسخير الطبيعة لإرادته. وفي نفس الوقت، فإن التجربة الذوقية التي قادت الفن إلى ذلك، لا تقوم بوصفها تجربة ذاتية محضة، فقد فتحت مجالات عدّة مكّنت من توسيع آفاق الإنسان الفكرية و الثقافية و الحضارية، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل: كيف يمكن إثبات القول بأن الآثار الفنية ليست مجرد تعبير عن الجمال، وبأن التجربة الذوقية ليست مجرد تجربة حميمية؟

 

عرض وضعية مشكلة

لنتأمل في مضمون هاتين الصورتين التعبيريتين لانفعال الحاسّة الذوقية الجمالية:

(*) جاء في محاورة (فايدروس) لأفلاطون، على لسان سقراط قوله لصديقه:

"... وهاك أخيرا الغاية من  حديثي، إنها تتعلق بالنوع الرابع من أنواع الهوس، أجل الهوس الذي يحدث عند رؤية الجمال الأرضي فيذكر من يراه بالجمال الحقيقي، وعندئذ يحس المرء بأجنحة تنبت فيه و تتعجّل الطيران، ولكنها لا تستطيع، فتشرئبّ ببصرها إلى أعلى، كما يفعل الطائر، وتهمل موجودات هذه الأرض حتى لتوصف بأن الهوس قد أصابها".

(*) وجاء في مقارنة هيغل (1831-1770) بين الجمال الطبيعي و الجمال الفنّي قوله: "... فالطيور زاهية الألوان تغرّد في غدوها و رواحها دون أن تهتم بأن ترى أو لا ترى، وقد تتبدد أغنياتها في الفضاء الرحب دون أن يسمعها أحد. كما توجد نباتات تزهر بقوة لمدة ليلة واحدة ثم تذبل دون أن تحظى بلحظة إعجاب واحدة، بل إن هذه الغابات و الأدغال ذاتها، بكل ألوانها الجميلة و المبهجة و النضرة، وبكل روائحها العبقة التي تفوح في كل الأرجاء، قد تذوى دون أن يستمتع بها أحد. أما العمل الفني فهو ليس متمحورا حول ذاته، مثل الطبيعة و لا مكتفيا بهذه الذات، إنه في جوهره سؤال يتردّد و يلّح في طلب الإجابة من كل تلك القلوب التي تخفق في الصدور، إنه بمنزلة النداء الموجه إلى العقل و الروح".

تحليل الوضعية المشكلة

* يحتوي الوصف في المحاورة الأولى على عديد من الصور المجازية الفرعية، مثل تلك الصورة الخاصة بالشخص الذي يحدّق في الجمال الأرضي فيصاب بحالة من الهوس المصحوب بالدفء في جسده، و يتدفق العرق من مسامه، فينبت له بفعل هذا التولّه بالجمال، زغب صغير لا يلبث أن يصبح ريشا يدفع المرء لأن يحاول - كالطائر- التحليق مبتعدا عن الظل أو العرض و الصورة، متجها إلى عالم النور و الجوهر و المثال.

* ومثل هذه التعبيرات المجازية يمكننا أن نقرأها بطريقة أخرى، فعندما نتناسى مؤقتا الأسس المثالية الخاصة بالفلسفة الأفلاطونية، يمكننا أن نكتشف في هذه التعبيرات إشارات تدل على أن الجمال ليس شيئا واحدا، فهو يمكن أن يكون أرضيا ماديا، ويمكن كذلك أن يكون معنويا أو مثاليا، أو مفارقا لعالم الواقع، أو غير ذلك من المعاني المتعددة للجمال.

* يتضمن وصف هيغل وجهين: أما الأول فيمكن حصره في أن الجمال الطبيعي، إنما هو جمال ثابت جامد، كما لو كان جمالا بالقوة لا بالفعل. وأما الوجه الثاني فإنما يدل على ذلك الجمال الإنساني الحيوي النشط، الذي ينقل الجمال من القوة إلى الفعل، لأنه يشع في النفس أولا، إنه بمثابة ذلك النداء الباطني الذي يأتي ذاتا ذواقة خلاقة.

* وهذا يعني أن العمل الفني لا يكتمل إلا من خلال استجابات المتلقّين له أو بالأحرى المتذوقين له، مما يوحي ضمنيا بأن التعبير الفني إنما يتأسس على الذوق الجمالي كتجربة إنسانية، وفي ذلك تأكيد على أهمية الاستجابة الخاصة بالعقل و الروح للأعمال الفنية.

- يترتب إذن، على الوضعية المشكلة بصورتيها اختلاف في فهم طبيعة الجمال: لقد حيّر الجمال، عبر تاريخ البشرية، المفكرين و الفلاسفة و الأدباء و الفنانين و علماء النفس و الناس بشكل عام، فتعدّدت تفسيراته بتعدد المنطلقات الفلسفية و النقدية و الإبداعية و العلمية و الإنسانية له، للإحاطة بمظهره و مخبره، وظل الجمال يروغ دوما من كل التفسيرات، ويقف هناك في الظل أو النور متألقا وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة تشبه ابتسامة الموناليزا، تلك التي حيّرت الملايين منذ قرون عدة، ولا تزال تحيّرهم، كل ما استطاع هؤلاء أن يفعلوه، هو أن يقتربوا على مسافة ما منه ثم يتأمّلوه متسائلين: ما المقصود بالجمال؟ وماذا عن التجربة الذوقية الجمالية؟ وماذا عن تطور الأثر الفني المبدع كتعبير عنها؟ وكيف يمكن إثبات أن هذه التجربة -مع سموها- لا تصوّر وحدها الأثر الفني المبدع؟ ثم كيف يمكن اعتبارها، ليس فقط تجربة ذاتية، بل تأملية لها أبعادها الموضوعية؟

 

ماذا عن التجربة الذوقية الجمالية؟وماذا عن تطور الأثر الفني المبدع كتعبير عنها؟؟

I-

- أولا: الذوق الجمالي كتجربة إنسانية:

إذا نحن نظرنا إلى الإنسان نظرة شاملة متوازنة متكاملة تكامل الجسم مع الروح، كان من السهل علينا أن ندرك انبثاق فن إنساني رفيع عن هذا الشمول و التوازن و التكامل، فنّ يشمل حياة الإنسان كلها، باطنها و ظاهرها، ويشملها في عالم الضرورة القاهرة و عالم الأشواق المحلقة، في عالم الواقع و عالم المثال، في دنيا الفرد وعالم الجماعة، في لحظة الإنتاج المادي و لحظة الإنتاج العقلي و لحظة الإنتاج الروحي، في لحظة هبوطه و لحظة رفعته، فيكوّن من كل ذلك أكبر أثر مبدع يمكن أن يشهده إنسان، باعتبار أن التعبير الفني إنما هو تجلّ للجمال، بل للذوق الجمالي التي أودعه الخالق فيه فميّزه به-فضلا عن العقل- درجات عن بقية الكائنات، فما هو السّر في هذه الخصوصية وهذا التميّز؟

وحتى نقف على حقيقته، نعرض لمعنى الجمال في صلته بالجلال و الانفعال و التعبير:

1- الجمال و الجلال:

إن الجمال صفة تلحظ في الأشياء ، وتبعث في النفس السرور و الرضا دون تصور، أي ما يحدث في النفس عاطفة خاصة تسمّى بعاطفة الجمال، و العلم الذي يبحث في الجمال و مقاييسه ونظرياته، يسمّى بعلم الجمال. (Esthétique) أما الجلال فهو العظمة و الكبرياء و المجد و الصفاء والبهاء، و الجليل (Sublime) هو المتصف بالجلال، وله تعريفات مختلفة : منها أنه السامي و الرائع الذي يأخذ بمجامع قلوبنا، والعظيم الذي يقهرنا، ويشعرنا بعجزنا، والهائل الذي يخيفنا و يولد في نفوسنا إحساسا بالخطر و التوتر.

و إذا كان الجميل و الجليل موضوعين للحكم الجمالي عند كانط، Kant  فإنهما موضوعان للتأمل الجمالي عند شوبنهاور، Schopenhauer لأن موضوعهما واحد وهو المثال الأفلاطوني، والاختلاف يكمن في الأثر الذي يحدثه الموضوع في هذا التأمل أو في الذات التي تدرك الموضوع، بشكل يجعل من هذا التأمل أمرا سهلا مريحا، أو صعبا فيه عناء، ومعنى هذا أن الاختلاف هنا يكمن في طبيعة الجانب الذاتي للرؤية الجمالية والتي وفقا لها يكون الموضوع إما جميلا أو جليلا. و بذلك، فإن الشعور بالجليل يكون مطابقا للشعور بالجميل من حيث أنهما يفترضان المعرفة الخالصة الخالية من الإرادة، ولكنه يتميّز فقط عن الشعور بالجميل بخاصة ترفعه فوق العلاقة العدائية لموضوع التأمل، وأن الذات في إدراكها للموضوع الجميل تكون في حالة هدوء ، في حين أنها لا تبلغ هذه الحالة في تأملها للجليل إلا بعد مقاومة و صراع عنيف، لأن هذا الموضوع يخلق لديها حالة من التهديد أو الاستثارة.

2- الانفعال ة التعبير:

إن الوصف العلمي للانفعال إنما هو محاولة لردّ الانفعال الفني إلى نوع معين أو إلى فكرة عامة، في حين أن التعبير على العكس يتجه إلى التخصيص و تأكيد الفردية و التكثيف.

وقد كان موقف أفلاطون من الإنفعال الفني موقف الخشية لأنه اتهم الفن بأنه يثير فينا الإنفعالات التي تهدم توازننا النفسي، بل يقوي فينا الرغبات و الشهوات. أما تولستوي (L.Tolstoi 1828-1910) فقد ذهب في تعريفه للفن عموما بأنه اللغة المعبرة عن الإنفعال، بل جعل من معيار العدوى الانفعالية التي يحدثها العمل الفني معيارا لامتياز العمل الفني، وأن الفن هو هذه الصورة المعبرة عن الجانب الشعوري الذاتي عند الإنسان الذي لا يمكن للغة المنطقية أن تعبر عنه، معنى هذه أن الفن حين يزودنا بطاقة و حيوية انفعالية، فليس معنى هذا الانفعال أنه مباشر كانفعالاتنا في الحياة، بل تغيرت طبيعته ومعناه، لذلك اعتبر وردزورث (1850-1770 W.Wordsworth) الانفعال الفني بأنه انفعال نتذكره بهدوء، وهو صورة للانفعال وليس الانفعال نفسه، ".. والشاعر الذي يقدم لنا الانفعالات لا يعذبنا، بل هو يرينا إياها في مرآة، إنه يكشف عن صور حياتنا الباطنية".

- ثانيا: تطور المنتوج التعبيري في الفن:

إن التعبير عمّا في النفس بيانه و الإعراب عنه، و القوة على التعبير صفة بعض الآثار الفنية الرائعة التي توحي بالصور و الأفكار و العواطف، وليس المقصود بالتعبير هنا أن تكون الصورة الفنية مطابقة للأشياء التي تمثلها، وإنما المقصود به أن تكون دلالة هذه الصورة على الأشياء مصحوبة بما يضعه الفنان فيها من إحساسه و خياله، وعناصر تجربته. ومن صوره:

1- المحاكاة من حيث هي نقد فني:

لنأخذ الرسّام مثلا: إنه يشبه -كما يرى أفلاطون- ".. ذلك الإنسان الذي يدير مرآة من حوله ليصنع منها مظاهر و خيالات للأشياء، فإذا رسم الفنان كرسيا، فلهذا الكرسي مرتبة ثالثة من حيث الوجود، إذ إن هناك أولا فكرة الكرسي كما صنعها الذهن الإلهي، وهناك ثانيا الكرسي المادي الذي يصنعه النجار، وثالثا مظهر الكرسي أو صورته كما يرسمها الفنان. ومعنى ذلك أن العمل الفني لا يحاكي المثل الثابتة للأشياء، ولا يصنع أشياء فعلية كتلك التي نراها في العالم الواقع، وإنما يحاكي مظاهر لهذه الأشياء الجزئية فقط، فهو إذن أبعد ما يكون عن (الخلق ز الإبداع)، بل إنه أقل مرتبة من النجار ذاته ". وهنا نتساءل: إلى أي مدى يمكن القول بأن التعبير الفنّي يخلو فعلا من الإبداع؟

يعود الاهتمام المنظّم بفكرة المحاكاة في نقد الفن إلى الفلسفة اليونانية عامة، وإلى أفلاطون وأرسطو خاصة. وقد نظر أفلاطون إلى الفن عموما وإلى الشعر خصوصا على أنه يزيف صورة الواقع و يقدم لنا نموذجا مشوّها له، ويعيب عليه أنه لا يتضمن دعوة أخلاقية، ويحكم على الفن كما لو لم يكن بينه وبين العلم و الأخلاق أي رابط، مع أننا نجد في أعمال أخرى له مثل محاورات: (فايدروس) و (إيون)و (المأدبة) على نحو خاص ما يشير إلى تأييده للفن.

أما أرسطو فأكد أن العمل الفني الجيّد يشتمل على اكتمال في الشكل واعتدال في الأسلوب، وبدرجة تضمن له أن يكون كلا مشبعا و مقنعا في ذاته خلال إحداثه لتأثيره، وفي (كتاب الشعر) أكّد على أهمية شروط الانسجام و التآلف و الوضوح و الكلية في الفنون الدرامية التراجيدية القائمة على أساس المحاكاة.

 2- الحدسية كتعبير إبداعي:

عند إدراكنا للجمال المادي، تقدم الطبيعة لنا بعض المثيرات، وهذه المثيرات يستقبلها العقل كانطباعات، فتصف على نحو فوري ومن ثم يتّم قبولها-أو رفضها- وتركيبها ومزجها، وتكون ذروة عمليات الاختيار و التركيب أو الدمج هذه الحدس الفني أو التعبير العفوي. وإذا كان الحدس متّسما بالكفاءة و الوحدة في ماهيته، والتعدد في طبيعته فستكون التنيجة المترتبة عليه هي الجمال، ويوجد الجمال أكثر في المواقف و الموضوعات المركبة لا البسيطة ، لأنه يكون فيها أكثر وضوحا.

و اللوحة الفنية لا تحتوي -في ذاتها- على الجمال، فهي مجرد تنظيم يساهم في تزويد المتلقي بمنظومة خاصة من الانطباعات التي يمكن أن تصبح بدورها المادة الخام للتعبير التلقائي أو الحدس الفني. وإنتاج الجمال أو الحدس-عقليا، ونفسا، وحسيا، وصوفيا-به تتكرر بشكل لا ينتهي وهي تحدث لدى المتلقي كنتيجة مترتبة على التعبير الذي أثارته العناصر و التنظيمات الموجودة في اللوحة، أو السيمفونية، أو القصيدة، أو حتى في كومة من الحجارة. فما تعليل كل ذلك؟

إن الفكرة الأساسية لدى هنري برغسون (1859-1941) هي أن العالم المادي يخضع لسيطرة قوى تسمى الدفعة الحيوية (Elan vital) ، وأن الفن يقوم على أساس الحدس، والحدس هو تفهم مباشر للواقع الذي لا يستطيع العقل أن يفهمه تلقائيا، وهو الطريقة الوحيدة المناسبة  للتعامل مع الواقع. ويقع الحدس في منزلة بين منزلتين: ملكة الغريزة التي تنشط على نحو لا شعوري، وبشكل أكبر لدى الحيوان وأقل لدى الإنسان، وملكة العقل التي هي أكثر سيطرة لدى الإنسان و أقل لدى الحيوانات الأدنى منه. و الحدس هو الطريقة المناسبة للحصول على المعرفة الخاصة بعالم الديمومة الذي يعتبر النشاط الفني أحد تجلياته.

وقد اهتم عالم الجمال الإيطالي المعاصر بنديتو كروتشه (1952-1866 B.Croce) بالتمييز بين المنطق والحدس، وبين أن المنطق يتعلق بتفهم العلاقات، ويتعامل مع المفاهيم العقلية العامة، أما الحدس فيتعلق بالتفهم الخاص أو النوعي، ويتعامل مع المفاهيم الخاصة بالفرد، والعمل الفني هو تعبير عن هذه الحدوس التي يتوصل إليها المرء، و الجمال و القبح ليسا من الكيفيات المتعلقة بالعمل الفني ذاته، بل بالروح التي يعبر عنها حدسيا بواسطة هذه الأعمال.

و التعبير في رأيه هو جوهر الإبداع الفني، فالحدس يعني التعبير، و التعبير يعني الإبداع، والتعبير في رأي كروتشه ليس خارجيا يهدف إلى التواصل ، بل هو الخيال، وهو التمثيل و الجمال و الفن، وكل ما يمكن إدراكه حدسيا عن طريق المعايشة، إن ما يؤثر فينا خلال تلقينا لأحد الأعمال الفنية و يجعلنا نشعر به باعتباره عملا فنيا، هو أننا نكتشف عنصرين دائمين و ضروريين فيه: مركبا أو مزيجا من الصور، وشعورا يبعث الحياة في هذه الصور.

كيف يمكن إثبات أن هذه التجربة-مع سموّها-لا تصوّر وحدها الأثر الفني المبدع؟؟

II-

إن مشكلة الإبداع الفني من أعمق القضايا وأعقدها على حد سواء، فهي أعمقها لأنها ترتبط بالمواهب الدفينة للفنان والتي انبثق عنها عمله الفني، ومن ثم فهي لا تنظر في إنتاج فن ملموس قدر نظرها في منبع و علة و كيفية حدوث هذا الإنتاج، وهي أعقدها لأن البدايات الشاحبة الكامنة غالبا ما تكون غامضة ومعقدة عن الإنتاج الفني الظاهر فتحتاج إلى عقلنة و تدريب. وهي بالإضافة إلى ذلك أهم مسائل الفن باعتبار أن الإبداع ينمّ عن أصالة، و الأصالة تنمّ عن عبقرية، والعبقرية تكشف عن عظمة الفنان و نبوغه.

و لأهمية هذه المشكلة و تعقدها و تعمقها نتناولها بالدرس و التمحيص وفق تشعب الآراء و المواقف بصددها، فما هو المدى الذي يجب أن نذهب إليه في التسليم بأن عملية الإبداع الفني ترجع إلى نوع من الإلهام، أو إلى توقّد العقل ، أو إلى المهارة و التدريب؟

- أولا: الإبداع الفني و الإلهام:

يذكر في سيرة الشاعر كوليريدج (S.Coleridge 1834-1772) أنه حلم بقصيدة بلغت أبياتها ثلاثمائة بيت في نومه وهي (كوبلاي خان) ، وأنه حين استيقظ وعمد إلى كتابتها أحس كما لو كان واقعا تحت سحر معيّن. ويروى عن شوبان (F.Chopin 1810-1849) أن الإلهام كان يأتيه تلقائيا فجائياساميا فلا يتوقعه، ويجده دون أن يسعى إليه. فما هو الإلهام؟

يتسع تفسير الإبداع الفني لوجهات نظر عديدة، إذ تعرض لدراسته الفلاسفة وعلماء النفس والنقاد على السواء منذ أقدم العصور إلى اليوم. ولعل أقدم النظريات الفلسفية التي نجدها حول تفسير الخلق الفني هي نظرية الإلهام تفترض موهبة معيّنة واستعدادا فطريا خاصا يجعل من الفنان شخصية فريدة في نوعها، وعن على التعبير الذي ’ثارته العناصر و التنظيمات الموجودة في اللوحة، أو السيمفونية، أو القصيدة، أو حتى في كومة من الحجارة. فما تعليل كل ذلك؟

إن الفكرة الأساسية لدى هنري برغسون (1859-1941) هي أن العالم المادي يخضع لسيطرة قوى الدفعة الحيوية (Elan vital)، وأن الفن يقوم على أساس الحدس، والحدس هو تفهم مباشر للواقع الذي لا يستطيع العقل أن يفهمه تلقائيا، وهو الطريقة الوحيدة المناسبة للتعامل مع الواقع. ويقع الحدس في منزلة بين منزلتين: ملكة الغريزة التي تنشط على نحو لا شعوري، وبشكل أكبر لدى الحيوان وأقل لدى الإنسان، وملكة العقل التي هي أكثر سيطرة لدى الإنسان وأقل لدى الحيوانات الأدنى منه. و الحدس هو الطريقة المناسبة للحصول على المعرفة الخاصة بعالم الديمومة الذي يعتبر النشاط الفني أحد تجلياته.

وقد اهتم هالم الجمال الإيطالي المعاصر بنديت و كروتشه (B.Croce 1866-1952) بالتمييز بين المنطق و الحدس، وبيّن أن المنطق يتعلق بتفهم العلاقات، ويتعامل مع المفاهيم العقلية العامة ، أما الحدس فيتعلق بالتفهم الخاص أو النوعي، ويتعامل مع المفاهيم الخاصة بالفرد، والعمل الفني هو تعبير عن هذه الحدوس التي يتوصل إليها المرء، والجمال والقبح ليسا من الكيفيات المتعلقة بالعمل الفني ذاته، بل بالروح التي يعبر عنها حدسيا بواسطة هذه الأعمال.

و التعبير في رأيه هو جوهر الإبداع الفني، فالحدس يعني التعبير، و التعبير يعني الإبداع ، والتعبير في رأي كروتشه ليس خارجيا يهدف إلى التواصل، بل هو الخيال، وهو التمثيل و الجمال والفن، وكل ما يمكن إدراكه حدسيا عن طريق المعايشة، إن ما يؤثر فينا خلال تلقينا لأحد الأعمال الفنية و يجعلنا نشعر به باعتباره عملا فنيا، هو أننا نكتشف عنصرين دائمين و ضروريين فيه: مركبا أو مزيجا من الصور، وشعورا يبعث الحياة في هذه الصور.

هذه الشخصية يصدر الكثير من أنواع الخلق الفني خاصة في الشعر و في الموسيقى. و ينتج عن ذلك ن الإلهام هو المنبع الأساسي لإبداعه وإجادته، حتى لتخبو إلى جانبه البراعة الفنية مهما بلغت من التمكن و المهارة، وهذه الفكرة إنما هي تجديد في النظرية القديمة التي قدمها أفلاطون قبل ذلك.

تعقيب: إن الإلهام المفاجئ ليس إلا وليد التفكير المضني المتواصل، وأن اللاوعي ما هو إلا نتاج الوعي. يقول بوانكاري (H.Poincaré 1912-1854) : ".. إن العمل اللاوعي لا يكون مثمرا ما لم يسبقه ثم يتبعه قدر من العمل الواعي، ولا يمكن لحالات الإلهام المفاجئة أن تظهر إلى الوجةد ما لم يسبقها جهود ذاتية متواصلة يظنها صاحبها عقيمة غير مجدية قد ضل فيها السبيل، وعجزت قريحته عن الإنتاج".

ومعنى ذلك أن التفكير الطويل في موضوع ما، وإعطاءه فرصة النضج في الذهن في حالات النوم والراحة عند أكثرية الباحثين و طلاب العلم بإلهامات و حلول مفاجئة، كأنما في العقل ناحية تعمل في الخفاء أو على هامش الفكر، وتحمل إلى الذهن الواعي نتيجة عملها في أوقات مختلفة تسمى حالات الإلهام، إن الظروف المناسبة للإلهام بهذا المعنى العقلي هي شدة الانصراف إلى الموضوع، والاستغراق و التأمل فيه، وسعة الإطلاع عنه، وحرية الذهن من قيود التفكير ومن ضغط القديم.

- ثانيا: الإبداع الفني و إرادة العقل:

يعدّ ليوناردو دافنشي (L.De Vinci 1452-1519) -وهو أعظم شخصية بين فناني عصر النهضة- نموذجا لأناس عصر النهضة الذين يصفهم إنجلز بأنهم عمالقة في قوة التفكير و العاطفة و الطبع و الشمولية و المعرفة ذلك أنه كان توّاقا لمعرفة كل شيء، وتحت دافع من عقله الكبير و نظره الثاقب، نجده يدرس الموسيقى و يمارس الغناء و الترنيم والعزف، ويفكر في تصميم المشروعات المختلفة، و يصحح النظريات الرياضية، و يعرض على المسؤولين أعمالا إنشائية و معمارية. ولقد درس جميع فروع العلوم بما فيها الرياضيات، و الهندسة و الميكانيكا، وعلم طبقات الأرض و التشريح وغير ذلك، وخو مع كل ذلك كان أديبا و شاعرا و كاتبا و ناقدا، فما تعليل هذه الظاهرة؟ وهل يعود الفضل في كل ذلك إلى عقله الفذّ؟

إن عملية الإبداع الفني نتاج العقل ووليدة الفكر و أنها فعل مستنير و واع، يحققه عقل ناضج فذ امتلك زمام نفسه و إرادة مضاءة بنور الفكر، وتمثل ناقد، وتفكير بصير، ذلك أن العمل بالنسبة للفنان عملية عقلية واعية و ليس مجرد انفعال أو إلهام، وهو عمل ينتهي بخلق صورة جديدة للواقع، تمثل هذا الواقع كما فهمه الإنسان الفنان أو أخضعه لسيطرته، فليس الإنفعال كل شيء بالنسبة للفنان، بل لابد أن يعرف حرفته و يجد متعة فيها، و ينبغي أن يفهم القواعد و الأشكال و الخدع و الأساليب التي يمكن بها ترويض الطبيعة المتمردة و إخضاعها لسلطان الفن، ثم أن تاريخ الفن يظهر لنا أن كثيرا من الأعمال الفنية الممتازة قد تحققت على أيدي فنانين متزنين هادئين، لم يزعموا لأنفسهم يوما أنهم قد وقعوا تحت تأثير شياطين ملهمة أو قوى إلهية خارقة، وهذا الهدوء و الاتزان المميز للعقل يجعل الجمال الفني نتاج القوة و الجلال و العظمة واعتدال الأهواء، فيقول شارل لالو (C.Lalo 1877-1953) : "الفن انضباط واتزّان ينتج عن الهدوء و الاتزان عدم المفاجئة و التدريجية في الفن كما في الأخلاق، فلا يحدث الإلهام بأعجوبة فجائية وإنما هو رأس مال يتجمع تدريجيا".

ةعلى الرغم من أن الفنانين كثيرا ما يسقطون من حسابهم عند الحديث عن إنتاجهم الفني كل تلك العمليات الشعورية و الإرادية التي يقومون بها في العادة عندما يبدعون، إلا أن من المؤكد أننا لو استعرضنا حياة الغالبية العظمى من الفنانين، لألفينا أنها غامرة بالبحث و الدراسة و الصنعة و التحصيل الطويل و التفكير الشاق، الأمر الذي يجعلنا نقرر أن العمل الفني ليس مجموعة من المصادفات أو الإشراقات الإلهية، بل هو ثمرة لقدرة تركيبية هائلة تتمثل في التنظيم و الصياغة.

وهكذا، فإن أصحاب النظرية العقلية يقرّرون أن كل إبداع فني هو نتاج فكري، وأن أي عمل فني -كائنا ما كان- لا يمكن أن يرى النور إلا إذا مسّته عصا العقل البشري، وخضع لتأمل ورويّة و إرادة و تصميم.

- ثالثا: الإبداع الفني و الخبرة المتعلمة:

أشار عديد من الباحثين إلى أهمية التدريب و المشاركة في عالم الفن في تحديد طبيعة التفضيلات الجمالية، ذلك أن التدريب و الخبرة و التعليم المناسب أمور مفيدة في تحسين معلومات الأفراد فيما يتعلق بالأشكال و الأساليب و التقاليد الخاصة بالفنون المختلفة. وهناك مؤشرات عدة تشير إلى أن طلاب الفن يفضلون الأعمال الفنية المركبة أكثر من الطلاب غير الدارسين للفن، وأن طلاب الفن هؤلاء يستطيعون أكثر من غيرهم تحديد ما إذا كانت مجموعة من اللّوحات خاصة بفنان واحد، أم بمجموعة من الفنانين مثلا.

إن هذه الأداءات الأفضل للدارسين للفنون لا تتعلق بالفن التشكيلي فقط، بل بالفنون الأخرى أيضا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الموسيقى، حيث اتضح من دراسات عدة أن أطفال الطبقة الوسطى أفضل في مهارات الاستماع للموسيقى من أطفال الطبقة الدنيا، وأيضا أن التدريب الذي يفترض أنه حدث أكثر في الطبقة الوسطى، أدّى إلى تحسين أداء الطلاب الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى في القدرة الموسيقية، في التعرف على العلاقات النغمية، وفي الحساسية الجمالية، وفي إدراك الفروق بين المقطوعات الموسيقية أيضا.

ثم كيف يمكن اعتبارها،ليس فقط تجربة ذاتية وحميمية، بل كذلك اجتماعية ولها أبعادها الموضوعية؟؟

III-

لننظر في واقعة من التراث الفني الإنساني تقول:

إن مدينة (سيبارس Syparis) اشتهرت قديما عند اليونان بتنظيم قوانين لفن الطهي (كصورة من صور العناية بهذا الفن في تلك العصور)، منها أن من يخترع طبقا من الغداء يكون له وحده حتى تقديمه لمدة سنة، وإن كان واضحا فيما أصدرت سلطات هذه المدينة من قانون، تقديرها للمسات الفرد الإبداعية في فن الطبخ، كمثال لكل إبداع شخصي تبدو فيه معالم الجمال واضحة أخّاذة، فإن ثمة أسئلة تطرح بهذا الصدد منها: إذا لم يكن الجمال قضية شخصية فقط، وهو ذاتيا؟ وإذا لم تكن قيم الجمال مجرد أفكار في ذهن الإنسان، فهل يمكن اعتبار وجوده وجودا موضوعيا، خارجيا، ومستقلا عن الشخص الذي يدركها؟ ثم ما هي أبعاد هذا الوجود؟

- أولا: من حميمية الفرد إلى عمومية المجتمع:

إن الفن ظاهرة اجتماعية من حيث أنه إنتاج نسبي يخضع لظروف الزمان و المكان، وهو عمل له أصول خاصة به، وله مدارسه، ولا يبنى على مجرد الحميمية الفردية، وهو اجتماعي أيضا من ناحية أنه يتطلب جمهورا يقدّره و يعجب به. وعلى هذا فالفنان في نظر دور كايم لا يعبر عن (أنا) بل عن (نحن)، أي المجتمع بأسره، و لا يتم ذلك عن طريق التأمل الشعوري أو عن طريق الإلهام أو الوحي كما يتوهّم الفنانون حينما لا يمسكون بأيديهم خيوط التأثير الاجتماعي التي تكون في الواقع عميقة، متشابكة، معقدة، ومتداخلة تماما.

وعلى الرغم من أن المجتمع هو مصدر الأعمال الفنية إلا أن الأصالة الفنية تقتضي أن يدخل الفنان على التراث الفني تعديلات و تطورات أو تأليفات لم تكن مدركة من قبل ولكنها مع ذلك موجودة في المجتمع، ومشتقة من كيانه، فالإبداع الفني قائم على:

1- المؤثرات الجماعية، و البيئة الطبيعية، و الجنس (وهو ما يرثه الفنان عن قومه من اتجاهات فنية معينة)، ثم التيارات الجمالية السائدة.

2- أساليب الصنعة و التقاليد الفنية (أي تقنية الفن) والتراث الفني عبر التاريخ.

3- الوعي الجمالي للمجتمع في عصر الفنان:

و بناء على ما سبق فإن الإجتماعيين يرون أن الإنتاج الفني هو ضرب من الإنتاج الجمعي و ليس إنتاجا فرديا. والإنتاج الفني بهذا المعنى ظاهرة اجتماعية، إن الفن مهما كان وليد عصره فهو يضمّ قسمات ثابتة من قسمات الإنسانية، وكلما زادت معرفتنا بالأعمال الفنية التي جرّ عليها النسيان رداءه منذ أمد طويل، زاد وضوح العناصر المشتركة و المتصلة بينها رغم اختلافها و تنوعها، فما الإنسانية إلا نتاج لإضافة تفصيل صغير إلى تفصيل صغير آخر. ولهذا نجد إن الجمال لم يعد الآن عنصرا خالدا ناشئا بدوره عن مصادر خالدة أسمى، أو نتاج تركيب نفسي إنساني لا يتغير، بل أصبح من ظواهر الوعي الاجتماعي لدى الناس، مشروطا بالظروف الاجتماعية التاريخية المتغيّرة بتغيّرها.

تعقيب: لا ريب في المجتمع هو الذي يشكل العمل الفني و يحدد قيمته، ونحن مع إيماننا الكامل بأن المجتمع جزء لا يتجزأ من الوجود الذي هو موضوع الفن عامة، إلا أن الفنان هو الذي يرى الوجود من خلال ذاته، يحاول إدراكه و تفسيره و التعبير عنه، و الوجود هنا هو الوجود بكل نواحيه طبيعية كانت أو اجتماعية أو نفسية أو فكرية و ليس ثمة شك في أن المجتمع الذي يعيشه الشاعر يمكن أن يكون بالقياس إليه مصدر إلهام و وحي لا ينبضان، وأن للمجتمع بكل نا يخوضه من معارك ومن نضال، وكل ما يتصل به من قضايا سياسية أو اقتصادية تأثيره في الفنون. ومع إيماننا بأن حياتنا المعاصرة بكل ما تتصف به من حركة و سرعة و تغيير تشير إلى ضرورة مراجعة قيمنا الجديدة، وتعمل على تضافر كل الطاقات و القوى سواء أكانت فنية أم سياسية أم اجتماعية للنهوض بالمجتمعات و تطويرها، ومع إيماننا بأن العمل الفني قد يعكس كثيرا من صور المجتمع و مشاكله، ويشارك في محاولة تفهم حركات نضاله للوصول إلى رفاهية الإنسان و سعادته، نقول مع إيماننا بكل هذه الحقائق فإن هذا لا يعني أن المجتمع وحده هو الذي يشكل العمل الفني و يحدّد قيمته أو معناه، فقد يكون لحركات التطور أثرها في تطوير صورة العمل الفني أو تشكيله، ولكن المجتمع لا يمكن أن يقوم بهذا الدور وحده حتى في أكثر الآثار الفنية تأثرا بالمجتمع، والتزاما بمبدأ الفن الهادف و الواقعية.

ذلك أن الذي يحدد العمل الفني و يعطيه قيمته و كيانه و شكله هو الفن نفسه بكل ما ينطوي عليه من تقاليد و قيود و اتجاهات فنية، وإن الذي يحدد قيمة العمل الفني في النهاية هو قدرة الفنان، ومدى تمكنه من فنه، و سيطرته عليه، و إدراكه لخفايا هذه الصنعة وإلمامه بالأعمال الفنية المعاصرة و السابقة، ومدى وعيه بها وإدراكه لها. وإذا كان هناك تأثير لمجتمع ما على فنان فإن هذا التأثير مدين للحقبة التاريخية التي عاشها، وهو مدين لهذه الحقبة فنيّا لا تاريخيا، بمعنى أنه مضطر أن يلتزم الأشكال الفنية التي سادت عصره، والتي انحدرت إليه من سابقيه، فتدخل المجتمع لا يحدد شكل العمل الفني و لا يعطيه تفوقه و امتيازه، وإنما الذي يعطي العمل الفني كيانه و يحدد قيمته تجارب الفنان و قدرته على الإبتكار و مدى محافظته و استيعابه للقيم الفنية و التقاليد الموروثة و المتداولة عند معاصريه و سابقيه، وفي داخل هذا الإطار العام من التقاليد الفنية الموروثة يكون ابتكار الفنان و أصالته و إبداعه الذي يظل يحمل آثار العقل  الخلاق و التجارب الفنية أجيالا بعد أجيال.

- ثانيا: من حميمية الذوق إلى روحانية الحضارة:

من طبيعة الحياة الإنسانية أنها تجمع بين الغيرية و الأنانية، فلابد للحياة الفردية من أن تفيض على الآخرين، حتى لتجود بنفسها عليهم عند الاقتضاء، وليس هذا الفيض منافيا لطبيعة الحياة، بل هو من صلب عقيدتها الدينية، و شرط من شروط بقاء قيمها الأخلاقية و الحضارية، فالحياة ليست تغذيا فحسب، بل هي كذلك إبداع متعال يفصح عنه الفن، إنها تكتسب به في إطار روحانيتها تلك قوة جديدة.

لقد أكدت كل الشواهد ارتباط الفن بالدين، باعتبار أن الدين ظاهرة إنسانية، وذهب دور كايم -مثلا- إلى أن الدين كنظام اجتماعي هو الأصل في نشأة الفنون جميعا، فكان عاملا هامّا في تشكيل حياة البدائيين، حيث سيطر رجال الدين و السحرة على الحياة العامة ، وتصدروا حفلات الأعياد و المراسم الدينية و الزواج و الصلح و السلام والحرب، وبدا العنصر الفني ظاهرا في مثل هذه المناسبات كالرقص و الموسيقى، فمن هذه التصورات الدينية و حولها نشأت الأساطير، وهي أقدم شكل قصصي عرفه الإنسان، ثم جاء الفن التشكيلي لكي يجسّم في الصور و التماثيل هذه الأساطير، ومنذئذ أصبح الفن ذا مضمون.

 و بصفة عامة يمكننا أن نقرر أن العقيدة الدينية كانت دائما ذات أثر ملموس في كا الأطوار التي مرّ بها الفن، و بالنسبة للفن المصري القديم كانت عقيدة البعث من المحاور الرئيسية التي دار الفن- بشتى أشكاله- في فلكها، وإذا انتقلنا إلى الصين و اليونان القديمة لوجدنا أن تأثير العقائد الدينية على الفن كان واضحا ، وأن هذه العقائد قد خلقت فنّا شعريا بالدرجة الأولى، وأن احتفال الإغريق البالغ بالشعر و سائر الفنون كان عنوانا لحضارة هي أعظم الحضارات في العصر القديم.

و هكذا كان ظهور التصورات الدينية بداية مرحلة جديدة في حياة الإنسان، و حياة الفن على السواء، فإن الفن هو التعبير الجميل، ومن ثم يلتقي الدين و الفن التقاء كاملا في ذات الإنسان حسّا و ذوقا، حين يكون الفن قائما على التصوير الإيماني للوجود  و المشاعر و الأفكار و السلوك و الوجدان، وذلك ما ينطوي عليه الفن من منظور الإسلام.

إن مرجعية القرآن تعد الذخيرة الموحية للفن، كما هي الذخيرة الموحية للحياة، فقد كان للقرآن أثر بالغ في النفوس، وانصرف المسلمون الأوائل عن التعبير الفني فترة من الوقت، لما في القرآن من بلاغة و بيان و جمال و دقة في التصوير، فمن روائع ذلك التصوير، قوله تعالى: "و الأنعام خلقها لكم فيها دفء و منافع ومنها تأكلون* ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون". و قوله تعالى: "أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله و رضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين". و قوله جل شأنه : "إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس و الأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها واوينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون".

ومن هنا فإن الفن الإسلامي لا يجانب الفطرة، ولا يتجاهل الواقع، حيث يعرض الحياة من خلال الواقع الكبير الذي يشمل الضرورة الجمالية الفنية، ويشمل الأشواق الروحانية.

حل المشكلة

خاتمة:

يتضّح إذن من خلال العرض التحليلي السابق، أن التجربة  الذوقية بما تقوم عليه من انفعال للحاسة الجمالية، وما تصل إليه من آثار فنية إبداعية، إنما تترجم بحق تميّز الإنسان من حيث هو كائن يطبعه التسامي و الخلق، وهو في خوضه لهذه التجربة لا يركن إلى العاطفة الفردية الحميمية فحسب، بل يعمل دوما على جعل مواهبه الملهمة تتفتق صورا جمالية يزكيها العقل ، فتتجسد آثارا و تحفا بديعة تصنعها إرادته بسند من مكتسبات الخبرة و التدريب.

و فضلا عن ذلك ، تستمد التجربة الذوقية الجمالية بإبداعاتها الفنية مبرّر وجودها، مما هو سائد من الموروث الاجتماعي و التاريخي، ومن العقيدة الروحية و القيم الإنسانية، و ذلك ضمن التوجه الحضاري العام الذي تساهم، هي ذاتها، فيه بالنصيب الأوفر على الدوام.