ملخص الدرس / الثالثة ثانوي/فلسفة/الفن و التصوف بين النسبي و المطلق/مقالات الفن و التصوف

التجربة الجمالية

لا يسع الدارس أن يُغفل أن الحديث عن التصوف والفن والشعر صعب، بل إشكالي، لأسباب عديدة : منها أن جانيًا من هذه المدونة يَتعيَّن سواء في اختبار وجودي، أو في اختبار تأليفي فني وكتابي، ما تختلف معالجته بين هذا الجانب وذاك. ويزيد من أسباب هذه الصعوبة هو أن هذا الحديث انتقل من سياق ثقافة قديمة إلى سياق آخر، هو الثقافة الحديثة والمعاصرة. وقد تكون إحدى سمات هذا الانتقال هي أن إنتاجات الماضي العربي-الإسلامي تختلف في أنواعها وقواعدها وقيمها وأطر تداولها عما باتت عليه إنتاجاتنا الراهنة. وقد تكون العلامة الفردية إحدى أهم هذه العلامات المتأخرة. كما بات الإنتاج الحالي محكومًا بصنع ثقافي واقع سلفًا في التداول العمومي، فيما كانت تتعين الإنتاجات الماضية في سياقات تداولية مختلفة، خصوصًا بين البلاطات والمجالس. لهذا لا يمكن الحديث عن إنتاجات اليوم، الشعرية والفنية، من دون التنبه إلى أننا نعايش زمنًا مختلفًا، مهما اعتقد البعض بأنهم "يعودون" إلى ما كان قد انقطع في الماضي الزاهي.

تتوقف الدراسة عند إنتاجات وتجليات وتعبيرات، شعرية وتشكيلية، عربية متأخرة، للوقوف عند صلاتها بالتصوف تحديدًا. وهو وقوف لا يستقيم من دون الانتباه إلى أن هذه التجارب لا تعدو كونها واحدة من اثنتين :

  • ما يعايشه الشاعر والفنان، في وجوده، في عيشه، في تجاربه الانفعالية، على أنه اختبار فردي (صوفي، نفسي...)، لا نقوى على تبينه إلا في "شهادات" و"اعترافات"؛
  • ما ينتهي إليه الشاعر والفنان في إنتاجه بوصفه تجربة تأليفية ذات تجليات وتعبيرات، لا يمكن للدرس أن يتكفل به إلا وفق منطلق "التلقي"، فلا يمحض هذه التجربة – سلفًا – "شهادة أصل" متحقق في الكشف، أو في مبهم التجربة.

لهذا تتكفل الدراسة بمعالجة أكثر من تجربة شعرية وتشكيلية متأخرة (خير الدين الأسدي، شاكر حسن آل سعيد وغيرهما)، ابتداء من مقاربات ومفاهيم مستقاة من المدونة الصوفية القديمة وتَظهر في "التذوق" تحديدًا، من جهة، ومستقاة من الجمالية الحديثة، وتَظهر في "الضرورة الباطنية" عند التشكيلي الروسي فاسلي كاندينسكي، وفي مفهوم "التجربة" عند الفيلسوف الفرنسي جورج باتاي

 

اشتغال فني حول التصوف

السؤال عن "التجربة الروحية" في الفن سؤال صعب، وإن يبدو لكثير من النقاد أو الفنانين أحيانًا أكيدًا، متاحًا، وبديهيًّا للغاية. يكفي أن نتصفح بعض العناوين، ابتداء من المحرِّك الإلكتروني "غوغل"، لنجد، في العربية، كتبًا وأطروحات جامعية ومقالات، ومعارض أحيانًا، تسلك هذا المسلك بتلقائية بادية، فيما يبدو لي الأمر شائكًا، حتى لا أقول إشكاليًّا.

الحديث عن "التجربة الروحية" يجتمع حول مشكلتين : تحديد التجربة، من جهة، وتحديد الروحية، من جهة ثانية، وهما يتصلان بما هو أبعد من الشعر أو من الفنون التشكيلية؛ بل يمكن القول إن الجمع بين هذين المحدِّدَين والإبداع قد يبيح لبعضهم طرقًا معبدة ومسلوكة، إلا أنه لا يبيح لي كدارس التقدم من دون تبين الإشكالية التي يشدنا إليها موضوع هذه الدراسة. فكيف ذلك ؟

لا أريد أن أتباسط طويلًا في استبيان الحمولات والمحددات المختلفة لكل من : "التجربة" و"الروحية"، على أن الثانية صفة للأولى، إذ إن الأمر سيكون موضوع معالجة لاحقًا. ماذا عن "الروحية" و"الروحنة" في هذا السياق ؟ أهي تخص الروحانية الإسلامية وحدها أم غيرها معها مثل البوذية واليهودية والمسيحية وخلافها ؟ أهي تخص الروحية الدينية، أيًّا كان مصدرها، أم الروحية المنشغلة بهواجس وجودية وجمالية وغيرها أيضًا ؟

ما أريد البدء به هو خلاصة ما انتهيت إليه بعد قراءة المدونة التي جمعتُها خصيصًا لهذه الدراسة؛ فقد وجدتُ أن هناك سبيلَين انتهجَهما دارسون وفنانون في الحديث عن هذا الموضوع، وهما :

- ما يمكن التسليم به من دون إبانة؛

- ما يمكن التسليم به إثر معاينة وتحليل.

هذان السبيلان يمكن القبول بهما، إلا أن الدرس لا يقبل بهما من دون مناقشة. ولو أردتُ تمثيل هذين السبيلين ابتداء من الخطاب الصوفي لوجدت أن سبيلًا منهما يتوكل على : المشاهدة من دون شاهد، والآخر على : المعية.

إلا أن مطلوب الدراسة لا يتعين في مسألتَي "التجربة" و"الروحية"، إلا في نطاق بعينه، هو : الفنون التشكيلية في الوطن العربي (وفق لفظ الندوة). ولقد وجدتُ – بالعودة إلى مدونتي المجموعة – أن هناك فنانين ومعارض متفرقة اجتمعتْ أو يمكن لها أن تجتمع تحت هذا العنوان العريض. بل اسمحوا لي أن أعبر عن بعض الدهشة مما توصلتُ إليه، وهو أنني ما كنتُ أتوقع مثل هذا العدد من الكتب والمقالات والمعارض حول هذه المسألة في الفنون التشكيلية.

الفنان المصري أسامة القاضي انطلق من بيئته الخاصة، النوبة، ومن التدين الشعبي وممارساته، لكي يصل إلى التصوف، ويعالجه من وجهة ثقافية، إذا جاز القول، مثل تشديده في لوحاته على رمز الهدهد...  النحات خالد زكي يستدعي في منحوتاته الرمز الصوفي... التشكيلية نجية المحاجِّي الفرنسية-المغربية اعتنت برقص الدراويش، ما ظهر في رسومها ذات الإحالات الدائرية... الفنانة الأردنية ماجدة الحوراني أقامت معرض "ورد وتصوف" في تعالق مع جلال الدين الرومي... الفنان التونسي عبد الملك العلالي استلهم رموزًا صوفية من باب التصوير الشعبي... وهذا ما أجده أيضًا في أفلام ذات موضوعات متعالقة مع التصوف : "بابا عزيز" لناصر خمير، و"ألوان السما السابعة" للمخرج سعيد هنداوي، و"مسيو إبراهيم وزهور القرآن" عن رواية تحمل الاسم ذاته...

كما أقع في مسائل الخطاب عن التصوف والفن على : د. ماهر كامل نافع الناصري : "النزعة الصوفية في الرسم العراقي الحديث" [1]، التي طلب فيها درس "آليات اشتغال النزعة الصوفية في الرسم العراقي الحديث". وأقع على كتابات ومواقف وسجالات مختلفة ومتفرقة...[2]. وهناك غيرها بطبيعة الحال، ما يتعدى مطلوب هذه الدراسة، التي تنطلق في معالجتها لموضوعها من السؤال التالي : أهناك إمكان لعلاقة بين التصوف والفن في الراهن الإبداعي العربي ؟

من المعاينة إلى التأمل

 يسخر د. عمار علي حسن، في كتاب له بعنوان : "التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر، ثقافة الديمقراطية ومسار التحديث لدى تيار ديني تقليدي" ممن يتناولون الطقوس الصوفية و"يُجرِّدونها من الدين"، واصفًا إياهم بأنهم يكذبون على أنفسهم، لأنهم يتعاملون مع الطقوس كفن فقط، ولا يتعاملون مع أصل الأشياء. أهذا صحيح ؟ أهذا توصيف أم حُكم ؟

اخترتُ التوقف، بداية، عند عمل الفنان العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد (1925-2005)، إذ هو يمثل خير تمثيل ما أطلب درسه، وهو "الرائد" بأكثر من معنى في هذا السبيل. فله مسار في التصوف متعدد الشواغل والتجليات، سلوكًا وفنًا، وتنظيرًا في مسائل التاريخ الفني والنظرية الفنية. ولقد اتجه إلى التصوف – على ما أعرف من محاوراتي معه – إثر تجربة وجودية، ما ظهر في مطالع الستينيات في حديثه، بداية، عن "التأمل". يجيب جبرا إبراهيم جبرا عن جديد فنه بالقول : "اتجهتُ إلى اعتبار العمل الفني وسيلة في تأمل الجمال الإلهي"؛ وبقيت التأثيرات "كامنة في استخدام أسلوب جديد"، في "أسلوب ابتعد كثيرًا عن التشخيص، وأصبح يدور في فلك التجريد باعتباره وصفًا ظاهراتيًّا للعالم" .

لم تعد اللوحة إظهارًا للمرئي، بل باتت سطحًا تُجري فوقه عينُ الفنان "تأملًا"، ما بات يجمع الفن بما هو خارجه، مما يقع بين العمل الفكر والاختبار الفردي. وهو ما يُعتبر – حينها - جديدًا في التشكيل العربي، إذ إن في إمكان الدارس الوقوع على موضوعات تصويرية موصولة بالتصوف، مثل أكثر من لوحة عن رقص "الدراويش" في أعمال المصري محمود سعيد، على سبيل المثال، أو عند غيره، إلا أن هذه المعالجات لا تعدو كونها نقلًا وتتفاعلًا مع مشاهد اجتماعية، من دون أن يكون منطلَق العمل اختبارًا فنيًّا موصولًا بالاختبار الصوفي نفسه.

لهذا يمكن اعتبار تجربة آل سعيد على مدى أكثر من 45 سنة من الإنتاج، التشكيلي والكتابي، متنًا جديرًا بالتوقف عنده، وبتناول أسئلة موضوعنا ابتداء منه. ويمكن القول إن تجربة الفنان انطلقت سلفًا من "تجربة" بعينها عايشها في حياته، خصوصًا في رحلة حج، على ما أخبرني بنفسه في أكثر من مرة، من دون أن يتم العثور في محفوظات الفنان أو لدى المقربين منه على ما يشير إلى هذا النص الذي دوَّنَ فيه التجليات الكتابية لهذه التجربة  وهو ما أخبرني به، في حوار أجريتُه معه في مطالع الثمانينات في باريس : "أعتقد أن هذه الفترة (من العام 1958 حتى العام 1966) كانت فترة انتقائية. يظهر الحرف مجرَّدًا مرة، وطبيعيًّا مرة أخرى، وذلك حتى ظهور "البيان التأملي" في العام 1966، حيث أصبحت للحرف هوية تجريدية بحتة في اللوحة. منذ هذا التاريخ بدأتُ بمعاملة الحرف كعنصر من عناصر وصفي الشهودي للعالم. حاولتُ أن أرسم وقتئذ العالم، لا كما أراه رؤيةً عينية وحسب، بل كما أحس به وأنا في اتجاهي نحو المطلق. وكنت أيضًا وقتئذ قد أوغلت في دراساتي الصوفية... بدأتُ، بعد ذلك، أعامل الحرف كمجرد سمة لاشكلية، فتذوب هويته اللغوية في موقعي الشهودي كمتأمل. ولم تكن قد ظهرتْ بعد أهمية الجدار في رسومي، فظل الحرف بعيدًا عن معناه حتى العام 1973".

كما يوضح آل سعيد، في محاوراتي معه، المقصود بـ"البيان التأملي" : "هو وجهة نظر في وصف العالم، لا باعتباره عالمًا وجوديًّا، بل باعتباره عالمًا شهوديًّا. أي أنه وصف حيادي للعلاقة التي تنشأ بين الجزء والكل، بين الذات الإنسانية والذات الكلية. وقد تسنى لي وقتها أن أقارن بين معنى العالم المرئي ومعناه اللامرئي، فاستخدمتُ العدد الكسري للتعبير عن ذلك. قلت إذا كان الرسم الطبيعي يعتمد على الأبعاد الثلاثة في الوقت الذي يتمُّ فيه هذا الرسم على سطح ذي بعدين، وهو السطح التصويري، فإن ما يعبِّر به الفنان هو العدد الكسري 3/2، أي أن الفنان يحمِّل السطح التصويري فوق طاقته حين يضيف إليه البعد الثالث بواسطة المنظور الجوي. فاستخدام الفنان للمنظور استخدام طارىء، إذًا، وليس من صميم العمل التصويري نفسه، فضلاً عن أن التعبير عن هذا العالم التصويري يبقى وهميًّا، أي غير حقيقي".

ما يمكن التأكد منه، بعيدًا من الشهادات نفسها، أو بالترافق معها، هو أن آل سعيد أوقف مساره التشكيلي السابق (المتمثل خصوصًا في تجربته المميزة في إطار "جماعة بغداد للفن الحديث"، ابتداء من العام 1954، إلى جانب جواد سليم وغيره)، واتجهَ في مسار آخر لن ينقطع عنه منذ ذلك الوقت؛ وهو ما عُرف به وتميز به وشكَّل علامته الفارقة في التصوير العربي الحديث.

بين النقطة والبُعد

لو طلبتُ إبرازًا لتجربة آل سعيد الصوفية في الفن لوجدتُها تعود إلى متن الخطاب الصوفي، من جهة، فضلًا عن معايشات ومكابدات وجودية لفنان في حياته الخاصة، من جهة ثانية. إلا أن هناك تعالقات أخرى في هذه التجربة يُستحسن عدم إغفالها، وهي ما وصلَه بفنٍّ تفاعل معه في تجارب مختلفة أجنبية، وما وصلَه بتآليف فكرية ولغوية وآثارية وجد فيها مستندًا لعدد من تفكراته التاريخية والنظرية. هذا ما ظهر في سلسلة متتابعة من التجارب والإنجازات التشكيلية، التي يمكن للدارس تحديد علاماتها وفروقاتها وحدودها الداخلية في ما بينها. وهو ما يَظهر أيضًا في سلسلة متتابعة من المقالات والمحاضرات والدراسات والكتب، التي لم يتوقف عنها آل سعيد طوال حياته، بل كانت ترافق تجاربه التشكيلية، وتوفر لها سندًا؛ كما كانت هذه الإسهامات الفكرية "تُغْني" و"تُوجّْهُ" أيضًا خياراته وانتقالاته في التشكيل. ويمكن القول إن خطابه في التشكيل يبقى موصولًا مثل سند أو منشط لفنه، على الرغم من أن بعض إسهاماته الفكرية والتاريخية تعدت ذلك لتنصرف تمامًا إلى الدرس من دون غائية متوخاة لفن

ولو شئتُ اختيار نقاط ارتكاز للتحليل في فنه لوجدت أنها تتعيَّن في نقطتين : النقطة والبعد؛ وهما مأخوذتان من المتن الصوفي. أورد آل سعيد في غير مرة وفي غير مقال وحاور هذا القول الشهير للحلاج : "عِلمُ كل شيء في القرآن، وعلم القرآن في الأحرف الأولى التي في أوائل السور، وعلم الأحرف في لام ألف، وعلم لام ألف في ألف، وعلم الألف في النقطة" . وهو ما يمكن الوقوع عليه في "رسائل" إخوان الصفاء، حيث إنها تنطلق من أقوال فيثاغورس وغيره من الفلاسفة الإغريق في كون المساحة تتعين في خطوط، وفي كون الخطوط تتعين في نقاط متتابعة 

هذا ما اكتملَ، في منظور آل سعيد، في "البُعد"، والذي يجد تجليه الأوسع والأشهر في إطلاقه اسم "البعد الواحد" على التجمع الفني الذي أطلقَه في بغداد في مطالع سبعينيات القرن المنصرم. لا أريد، اليوم، أن أستعيد نقاشًا سابقًا مع الفنان، وهو أن ما طلبه آل سعيد من "البعد الواحد" لا يعني حسابًا هندسيًا وتشكيليًا في نظري، إذ لا وجود للبعد الواحد في التصوير، وإنما هناك بُعدان (أي من دون البعد المنظوري)، أو ثلاثة. فيما قد يشير كلام آل سعيد إلى معنى غير هندسي، إلى معنى صوفي، توحيدي، وهو الإشارة إلى "القصد" أو إلى "وحدانية الله" الماثلة في تجلياته.

ولقد طلبتُ، في هذه الدراسة، التوقف عند كتابه الأخير : "البحث في جوهرة التفاني بين الأنا والآخر"، بعد أن وجدتُ فيه ما يفي في فحص العلاقات المعقدة والخصبة في منظوره الفكري. يجمع الكتاب بين الإتنولوجيا والأسطورة، من جهة، وبين النظام اللغوي، من جهة ثانية، فضلًا عن التنظير الفني : "فقد كنتُ من أمد بعيد أحس بأن مقدرتي على الاستنتاج من أجل الوصول إلى "اليقين" المعرفي، يتطلب مني اكتشاف الصلة بين أكثر من سبب "واحد" في الأشياء" (م. ن.، ص 9). هذا ما يربطه آل سعيد بالدرس العلمي (علوم اجتماعية في الجامعة)، وبالسعي – في مرحلة تالية – إلى ـ"الجمع بين شتى الأسباب"، من أجل "اكتشاف جوهر المعرفة" (الصفحة نفسها). وما حصَّله آل سعيد لا يعني الاختلاف والتعدد والتنوع إلا ظاهرًا، في واقع الأمر، إذ إن ما يستخدمه في "قناة لغوية" لا "يختلف كثيرًا عن ما أبذله في قناة أخرى"؛ أي أن ما "كنتُ أتعامل وإياه كـ"فن"، له تنظيره الخاص، لا يختلف عن سواه كمبحث أسطوري أو لغوي، مهما اختلفت مواد العمل" (الصفحة نفسها). وكان في إمكان آل سعيد أن "يبدأ" ويختم مجموع ما بحثَ فيه وفعله مكتفيًا باسمه – شاكر، الوارد في القرآن – إلا أن معنى اسمه – على ما يصرح – سيظل "ملكًا لي وحدي" (ص 12).

يميز آل سعيد بين "الفنان الذي لا يزال (مثل بيكاسو) عند مستوى الشكل أو المتبحر في علم الكلمة"، وبين "الفنان الذي هو ما وراء الشكل أو المتبحر في علم الحرف"، إلا أن الواحد مثل الآخر لا "يفتأ يبحث إما في اللوغوس أو في ما قبل اللوغوس، إما في بغية الكلمة أو التدوين بعد ظهوره كتدوين، أو في بنية الحرف أو ما قبل ظهور التدوين، أي في رسوم وزخارف الفكر السومري وما قبله، قبل العصر الشبيه بالكتابي حوالي 5300 ق. م."، و"لكلٍّ مستواه المعرفي في البحث الفني" (ص 37). هكذا تكون المعادلة لديه : القيمة الروحية بوصفها قيمة معرفية، والقيمة الروحية بوصفها قيمة فنية.

يعوِّل آل سعيد، مثل الصوفيين، على اللغة كوجود وكنظر إلى الوجود أيضًا، فيما لا يولي البصر عنايته، وهو في أساس التشكيل. لهذا أكثر من سبب : لأن آل سعيد يعود بمرجعيته وقيمه إلى الخطاب الصوفي، وهو خطاب لغوي وتعبيري مهما تحدث عن لغة الصمت، وعن "الأبجديات الماورائية" في كتابه المذكور وغيره؛ وهو خطاب معزز، بل مبني أساسًا على القرآن، أي ما يتوجب البدء به والتوجه إليه. في المقابل، يصدر فن اللوحة، أو الخطاب عنها، عن مرجعية وقيم أخرى، لا تقوم على القراءة والفهم والصمت والذكر وغيرها من لغة المتصوفة، وإنما على البصر والمعاينة والتحديق والعمى وغيرها. إلى ذلك، يحتاج أي خطاب عن اللوحة، وبالتالي عن ثقافة البصر، إلى ما يسنده في المتن الصوفي، وهو ما لا يتوافر له تمامًا بما يفيد اللوحة والإظهار، ذلك أن "المشاهدة" لدى المتصوفة في "الحضرة" لا تفضي إلى مشاهدة فعلية، أو معلن عنها، أو في النادر عند بعضهم، أو قد تفضي – كما عند ابن عربي – إلى لون وحيد على الأكثر.

لهذا يبدو كلام آل سعيد أقرب إلى التأمل أو التفكر في الفن، أي ما يستند إلى الخطاب اللغوي، لا إلى الناتج البصري. ولهذا يحتاج النظر إلى أعماله الفنية إلى نظر مزدوج : إلى ما يقوله عنها، وإلى ما تحمله بطبيعتها وتشكيلاتها.

فـ"البعد الواحد" ليس بعدًا هندسيّا، مثلما تتحدث عنه الهندسة واللوحة، وإنما هو عنده "وجهة"، و"قصد"، مثلما يتحدث عنه الخطاب الصوفي. وهو ما يمكن التنبه إليه في حاصل لوحة آل سعيد : في إمكان الدارس أن يرى إليها مثل فن "توثيقي"، أو "تعبيري"، لا مثلما يقول عنها؛ ذلك أنها – بخلاف ما يقول – ليست أعمالًا "لاذاتية"، أثرية بمعنى ما، أي مما بقي منها : لو كان له أن يحقق نظريته في الفن لكان عليه  - لو جاز لي الاقتراح - أن يأتي بجدران وثقوب وتحزيزات مثلما هي متروكة أو ماثلة في الشوارع وفوق الجدران... أما أن يرسمها، فهو يحاكي بالضرورة ما وقع عليه نظره في الخارج؛ عدا أنه "يختار" ما يستبقيه أو يلاحظه مما عاينه أو سجله فوق جدار وآخر، ما يعني "انحيازًا" وتدخلًا له طابع ذاتي بالتالي.

لما كانت الصوفية "شعوذة"

ما قام آل سعيد به ينحو بالفن صوب وجهة تأليفية، فيها مقادير عالية من التدبير والاجتهاد، ما يعني أنه اجتهدَ وتدبرَ وصنعَ، فما استفادَ وقلدَ وطوعَ ما رآه عند غيره. هو فن ذو صدقية خصوصية  بهذا المعنى، أي أنه حاصل تفكيرٍ وعملٍ متماديَين، بين العين والعمل، بين القراءة والمعاينة، وبين الفكر والصنع، وبين اشتقاق السبل الفنية وبين متابعتها من غيره .وهي عمليات ليست مرسومة، أو معبدة، وإنما هي مشتقة وتتجمع بين شرايين الجسد وانبثاقات العين واندفاعات الغريزة وحسابات الظن والتقدير.

لست في معرض استعادةِ مواقف آل سعيد، أو تدرجِها في تناول المسألة المطروحة، ذلك أن له أكثر من مسعى وسبيل في هذا الأمر، أكتفي بذكرها ولو سريعًا :

- الموقف النظري لأغراض تشكيلية (ما يتمثل في أكثر من بيان : "تأملي" و"حروفي" له)؛

- الدرس التاريخي والأسطوري بما يوافق هذا المنظور الروحي،

- النظرة الفكرية لما يمكن تسميته بتعالق الممارسة الفنية بالمنظور الروحي.

في إمكان دارس هذه الكتابات أن يتناولها في غير اتجاه وفحص، خصوصًا وأن آل سعيد اتخذ فيها موقف الدارس، لا الداعية (إذا جاز القول). ينطلق، في منظوره، من مواقف وثوابت وقناعات ومنطلقات، إلا أنه يسعى إلى تبينها، إلى معرفة مدى تلاؤمها مع ما يذهب إليه الدرس والتحليل.

يمكن القول، إذًا، إن آل سعيد قدم عرضًا حول علاقة الإنتاج الفني بالبناء الروحي في أكثر من كتاب ومقال، ما يتعدى بعض ما حاوله غيره من مساع أو من عناوين جمعتْ بين ما ينتجون وبين الصوفية حصرًا. ولم أجد – في حدود ما قرأتُ وعرفت وشاهدت – فنانًا أو دارسًا عربيًّا دخل إلى عالم الفن من منظور روحي، إسلامي تحديدًا، مثلما فعل ذلك آل سعيد، وفي فترة زمنية لم تكن فيها السياسات السارية (في العراق وغيره) تنظر بعين العطف أو القبول إلى الدعوات الصوفية، بل كان يُنظر إليها بعين الريبة، بدعاوى غير علنية ولكن قمعية في الواقع، تقوم على نبذ الصوفية تحت حجج مختلفة، مثل مقاومة الخنوع وغيرها من "التهم" الباطلة في الصوفية. ذلك أن واقع الرفض والقمع يتأتى من كون الأنظمة السياسية الاستبدادية ما كانت تقبل أي دعوة، أي نشاط، يفيض أو لا يقع تحت مراقبتها، أو بناء لأذوناتها المرخِّصة للحراك في المجتمع، ولا سيما للمثقفين والفنانين فيه. وهو ما شاركتْ فيه مواقف ونظرات أخرى : علمانية وحداثية ويسارية وغيرها، إذ كانت تتأبى الخوض في هذه التجارب أو التجليات راكنة إياها – في أحسن تقدير – في تجليات شعبية، بل سحرية وشعوذية في الفن والثقافة.

يسارع بعض الدارسين، اليوم، إلى إعادة "جدولة" فنانين وتجارب في النطاق الروحي والصوفي، فيما كانت تنتسب إلى دوافع ومثالات مختلفة : سبقَ أن توقفت، في احد كتبي، عند شاعر طلبَ سبيل "الشعر المنثور الصوفي" (حسب عبارته في تقديم مجموعته الشعرية : "أغاني القبة") ، في مطالع الخمسينيات من القرن العشرين، وهو خير الدين الأسدي، من دون أن أقع – حينها - على غيره. وهو ما يصحُّ في شاكر حسن آل سعيد أيضًا، إذ إن أحدًا لم يشاركه - حينها - دعوته هذه، بمن فيهم الفنانون الذين شاركوا، في العام 1971، في معرض "البعد الواحد" الأول؛ ويتبين من مراجعة الأدبيات والمواقف المختلفة أن بعضًا من هؤلاء (جميل حمودي تحديدًا) أصر على إضافة : "الفن يستلهم الحرف" عنوانًا ملازمًا للمعرض الأول، كما أن غيرهم (ضياء العزاوي، رافع الناصري...) انفصلوا عن التجمع بدعوى عدم مشاركة آل سعيد دعواه الفنية المرتبطة بدعوى صوفية، في الوقت الذي كانوا يميلون فيه إلى دعوى يسارية.

أكتفي، هنا، بالوقوف عند جانب وحسب من إنتاج آل سعيد، وهو التعالق بين موقفه النظري من الفن وبين إنتاجه الفني. هذا ما يجتمع في معضلة أولى : ما ينطلق منه الفنان، ما يكتبه، وما يصرِّح به، أهو ما للدارس أن يتقيد به، أم أن يجعله "مقترَحًا" وحسب في الدرس والتحليل ؟ ذلك أن الفنان (وليس المقصود، هنا، آل سعيد نفسه) يؤكد فيما يروج واقعًا لما يقوم به ويقترحه على الفن وسوقه وخطابه، فلا يسعنا التسليم به كما ورد، بل التعامل معه كما يتم التعامل مع "موقف" الأديب مما قال في حوار أو لقاء تلفزيوني أو مما كتب في "شهادة" أو سيرة أو مذكرات حتى : هذه "المواقف" لا توفر الحقيقة "الثابتة" و"النهائية" حول "حقيقة" الإنتاج المقصود، وإنما هي مقترح تعريفي في أحسن الأحوال، إن لم يكن، في غالب الأحوال، مقترحًا "تسويقيَّا" و"تشريعيَّا" له.

بعد استعراض مواقف كثيرة لآل سعيد، يمكن القول إنه لم يعد – إلا في النادر – إلى نصوص أو متن عربي وإسلامي لتفسير ما يذهب إليه في التحليل. هذا ما يقوم به في معرض تأريخ ودرس مصادر أسطورية أو مادية في التاريخ الرافديني، فنجده يعول على الدارسين – وأكثرهم من الغربيين طبعًا – في جمع مادته، كما يعوِّل عليهم في المنهج، في القراءة... لقد كان منشغلًا، في المقام الأول، باستبيان ما يمكن أن يكون عليه فنه في سياق تجارب الفن الحديث في العالم.

"الروحاني في الفن"

ما قام به آل سعيد فكرًا وتصويرًا لا يبتعد بل يتشارك مع غيره من إنتاجات الفنانين في العالم. لن أستعيد، هنا، مسار فنانين كثيرين ممن وجدوا في التفكير في الفن سندًا للصنع في اللوحة نفسها، وأبعد من ذلك مما يقع في شواغل الفكر والوجود والفن. وهو انصراف قد لا نجده تمامًا في ما شرع به ليوناردو دا فنتشي في كتابه عن "نظرية التصوير"، إذ يبدو ما يكتبه أشبه بدفتر عملي لما الفنان أن يتدبره في معالجة اللوحة وموضوعاتها وطريقة التصوير فيها.

ما قام به الفنان الروسي فاسيلي كاندينسكي، منذ العام 1910، في كتابه "عن الروحاني في الفن وخصوصًا في التصوير"  يبدو شديد الاختلاف عن سابقيه. هذا الكتاب مدهش على أكثر من صعيد، ويستحق غير وقفة فيه : لهذا الكتاب قيمة تاريخية وتوثيقية في تاريخ التصوير الحديث، ولا سيما التجريدي منه، إذ أنجزه الفنان على إثر رسم لوحته التجريدية الأولى ، ما يقيم تعالقًا خصبًا بين ما باشر به تصويرًا وما أسعفه به أو استفزه من فكر. وما هو مدهش فيه أيضًا هو هذا الجمع المتناسج بين التفكير المستخلَص من خبرة تصويرية ولونية خصوصًا وبين التفكير الفني ذي النفس "الرؤيوي". فقراءة الكتاب، على الرغم من توزعه في أقسام داخلية وعناوين مرفقة بها، يبدو على قدر من التتابع والترابط، من جهة، وعلى قدر من التحقق العياني والتأمل المغتذي بما يمكن تسميته بـ"إشراقات"، من جهة ثانية.

عددٌ من عناوين فصول الكتاب يتوقف عند : الحركة، والانعطافة (الروحانية)، والهَرَم، واللون، والشكل وغيرها، ما يحسب في النظر التشكيلي والاختباري في نطاق اللوحة، إلا أننا نتحقق من أن معاينات واختبارات كاندينسكي تجعل لهذه المفردات التشكيلية أجنحة تحلق بها في مدارات التأمل والانفعال والتسامي وغيرها. لو نستعد بعض أقواله : "إن مثلثًا كبيرًا منقسمًا إلى أجزاء غير متساوية، وله جزء علوي قي قمة (المثلث) هو الأصغر والأشد ضيقًا، يُمثِّل في صورة مناسبة الحياة الروحية" (م. ن.، ص 43). هكذا يصبح المثلث تعبيرًا متساميًا، يجنح مثل سهمٍ صوب الأعلى. بل يذهب كاندينسكي أبعد، إذ يجعل من المثلث صورة تمثيلية لأكثر من معنى، لأكثر من كيان : "أحيانًا، في طرف (المثلث)، لا يوجد غير رجل واحد، وحيد. رؤيته تساوي حزنه العميق. ومن هم قريبون منه لا يفهمونه أبدًا. إنهم يطلقون عليه (أقذع الصفات)، تعبيرًا عن استيائهم، مثل الدجال، وشبه المعتوه" (ص 44). مع ذلك، وعلى الرغم من ذك، لا يتوانى المثلث الروحاني "عن التقدم، في واقع الحال. إنه يصعد، ببطء، ولكن بقوة كاسحة" (ص 48). أما ما تغيرَ، ما أدى إلى هذه الحالة الناشئة، فيعود إلى "أن غرضَ بحثِ الفنان لم يعد قائمًا في الشيء المادي، الملموس، الذي كانوا يتعلقون به وحده في العهد السابق – في العهد الذي تمَّ تجاوزه -، بل بات (الغرض) في مضمون الفن نفسه، في ماهيته، في روحه" (ص 48-49).

اللافت، في كتاب كاندينسكي، هو الصلة الزمنية القائمة بين أول لوحة تجريدية وبين هذا البيان المواكب لهذا التحول، والمفسٍّر له في الوقت عينه. ما يمكن أن تكون عليه هذه الصلة بين "الروحية" و"التجريدية" ؟ قد يسارع البعض إلى تفسير يربط الفن السابق بالتشبيه، فيما ينصرف الفن الجديد إلى التجريد، ما قد يعني ميلًا مزيدًا إلى التهرب من أي شبه. إلا أن خطاب كاندينسكي يطمح إلى ما هو أبعد من انتقال من نمط تصويري إلى غيره، إذ تبدو القطيعة قوية مع الفن السابق، والبداية طموحة في ما تسمو إليه.

ما يشدد عليه كاندينسكي هو أن الفن ينتقل من فن استلهام الطبيعة، إلى فن يرتبط بـ"الروح"، أي بالنفْس الإنسانية، ببواطن ما يعتمل فيها. لهذا نراه يعول على عدة الهندسة (مثلث، مستطيل، هرم...)؛ ونجده ينظر إلى الشكل بوصفه "تحديدَ مساحة بمساحة أخرى" (ص 97)، أي من مقومات الهندسة بدوره. بات موضوع التصوير، أي الهيئة الإنسانية أو المشهد الطبيعي وغيرهما من موضوعات التصوير قبل هذه "اللحظة" مع كاندينسكي، لا يقوم على إيجاد الشَّبَه، وعلى التوافق معه، هيئة ومظهرًا وحجمًا، وإنما بات التصوير معنيًا بشكل الموضوع ومفرداته الهندسية. وهو ما بات يصح في اللون كذلك، إذ باتت له "قيمة" في حد ذاته، مما يُحدثه في المتلقي، ولم يعد اللون "حشوًا" للمادة التي يصور، وهيئة موافقة لها : يبدو الأحمر الحار "مثيرًا على الدوام"، إلا أنه، إذا عيَّنَ عنصرًا في كائن، فإنه يفقد قوته هذه، التي لا نجدها قوية إلا حين يكون هذا اللون ماثلًا في لوحة تجريدية" (ص 151).

بات التصوير يستعين بأدوات أخرى (مفردات الهندسة)، وبات يحوِّل قيمة الألوان إلى مهام أخرى، غير المعهودة. كما أن عمل الفنان بات يستجيب لمقتضيات لا تتعين في طلب التشابه مع الطبيعة وما تقترحه على الفنان، وإنما بات يستجيب لـ"مبدإ"، هو "الضرورة الباطينة"، أو "الداخلية"، وفق تعبيره (ص 98). وهو، في ذلك، لا يتحدث عن التصوير وحده، بل عن "الفن" عمومًا (ما يحدده بقوة عنوانُ الكتاب)، إذ يقيم مقارنات متعددة، ولا سيما بين التصوير وبين الموسيقى. هكذا يتحدث عن التصوير مستعينًا بالموسيقى، ما دام أن الفنان هو "اليد التي، بواسطة هذه اللمسة أو تلك، تسحب من النفس الإنسانية الإيقاعية المناسبة" (الصفحة نفسها).

ما يعنينا من كلامه هو تشديده على انتظام التصوير في "وضعية جديدة"، إذ تتخلص من انقيادها الشديد إلى "الطبيعة"، على أن "تفتحها" لا يزال "في بداياته" (ص 148). ويجد كاندينسكي بأن اللون مثل الشكل عملا، في السابق، "بشكل لاواعٍ" في بناء اللوحة، طالبًا في العمل أن يصب في مصلحة الفن مباشرة، وبشكل واعٍ، أي مقصود.

هذا ما يجعل كاندينسكي ينتبه إلى فن تجريدي آخر، هو الفن الإسلامي، الذي يعاينه في أحد تجلياته، وهو الفن الفارسي (ص 148-149 وغيرها). هذا الفن يبتعد سلفًا عن الطبيعة، إلا أنه لا يبني تجريدية الفن، حسب كاندينسكي : "إن كثيرًا من الفنون القديمة، مثل الفن الفارسي، عرفتْ ومارست تبعية اللون للشكل الهندسي"؛ لكنه يستدرك : "غير أن بناء (الفن) على أساس روحاني خالص فهو عملٌ بعيد المنال" (ص 148). إلا أن كاندينسكي لا يوضح حكمه هذا تمامًا، ولا يفسره بالمقابل. لماذا لا يتاح للفن الإسلامي (أو غيره) ما يتحصل لغيره بعد قرون ؟ كما أنه لا يتساءل : لماذا لا يتاح للفن الإسلامي أن يعرف "مكابدات" الروح (إذا جاز القول)، فيما عرف هذا الفن مكابدات التصوف أو الاعتقاد الديني المتوقد ؟

ألا يحسن بنا، ربما، طرح هذا السؤال، آخذين في عين الاعتبار أن كاندينسكي عرف بعض تجليات الفن الإسلامي، ولا سيما الخط العربي، كما تحققَ منها في رحلته "الشرقية" في العام 1904، والتي زار فيها القاهرة وتونس ؟ كيف لا نثير السؤال، وقد وقعنا في نتاجه، إثر هذه الرحلة، على أعمال فنية مستقاة بصورة بينة من الخط العربي ؟

لعل كاندينسكي قد تجنبَ إيجاد صلة بين الفن الإسلامي وبين الفن التجريدي لأسباب لا يصرِّح عن بعضها تمامًا، وهي لأنه فن ديني، فيما يجنح صوب فن يستقي مرجعيته وقيمه من ثقافة أخرى، من الثقافة الجمالية الخارجة على الفن الكلاسيكي، وعلى إحالاته الدينية الصريحة أو الضمنية. يكفي أن نتوقف عند تعيينه للفن "الجديد" لكي نلحظ بأنه يصرِّح عن أسباب أخرى، هي التي جعلته يبتعد عن "الصلة" المذكورة، ذلك أنه لا يطلب فقط من الفنان أن "يدرِّب عينيه من جديد"، وإنما يطلب منه خصوصًا "تدريب روحه"، ما يعني تدريبًا نفسيًا وجماليًا بالتالي. ذلك أنه يطلب للعمل الفني قيمة لا تتأتى من  مرجعية ماورائية، وإنما من معين ما يقوى عليه الفنان بنفسه، في عمله، في خياراته، وما يطلبه بدوره من متلقي العمل الفني، وفق المعادلة عينها.

مع ذلك، يقرُّ كاندينسكي بأن "فن الزينة" لا تنعدم فيه الحياة، وله "حياة داخلية" خاصة به، ولا يُحسن بالتالي فك الاشتباك بصورة ناجزة بين الفن القديم وبين الفن التجريدي الناشىء. إلا أنه يميز، في بعض هذا الفن القديم، كون الأشكال الهندسية "تحويرات" عن عالم الطبيعة، والألوان فيه تعبيرات "رمزية" لما تعينه خارجها. مع ذلك، لا يناصب كاندينسكي "فن الزينة" العداء، بل يتوقع له مقادير من التطور، فيما يناصب الفن المستوحى من الطبيعة كل العداء. فحرية الفنان في العمل المستوحى من الطبيعة محدودة للغاية، في أشكاله أو في ألوانه، فيما يطلب له "الحرية اللامتناهية" التي لها أن تمكنه من موافقة "حدسه" حيثما يشاء (ص 151).

هذا ما يلغ، مع كاندينسكي، عبارته الشهيرة : "ليس بالاكتشاف أبدًا أن نقول إن الفن متفوق على الطبيعة" ، ما لا "ينزل من سماء"، وإنما يتعين وفق "الضرورة الداخلية"، كما أسلفنا القول. وهي ضرورة تنشأ بعيدًا عن أي علاقة قديمة أو متبقية مع الدين، أو مع الفن الكلاسيكي : ضرورة تقيم الفن في علاقة مخصوصة، إدراكية وإحساسية بين الفنان وعمله، وهي كذلك علاقة العمل بمتلقيه وما يحدثه فيه. وهذا يعني أن الفن يتولد من "الفنان" نفسه، وهو في ذلك يكون "سريًّا، ولغزيًّا، ونسكيًا" (أو صوفيًا) (ص 169).

ينتهي كاندينسكي، في الفصل الأخير من كتابه، إلى ما يبدو مثل خلاصة : "العمل الفني الحق يتولد من الفنان" (ص 169). وهو، إذ يشدد على "مصدر" الفن (الذي لم يَعُد في خارجه)، ينتهي إلى مآل الفن، وهو أنه باتت له "حياة مستقلة"، وله "شخصية"، بل "كيان"، وله "موضوع مستقل"، و"يُحركه نفَس روحاني" (الصفحة نفسها). باتت قيمة الفن فيه، إذًا، وروحانيته فيه، ويتدبرها الفنان نفسه؛ صارت للعمل الفني "حياة داخلية"، مرهونة بقدرة الفنان، بل بحريته في اختيار ما يشاء ويطلب لعمله.

من "الضرورة" إلى "التجربة"

كتاب كاندينسكي مشعٌّ بتولداته الانبثاقية التي انتهت إلى أن تكون، في الكثير منها، أفكارًا ومفاهيمَ سارية في خطاب الفن منذ قرن ونيف، بل باتت من مألوف هذا الخطاب مثل حقيقة راسخة. في إمكان الدارس، بطبيعة الحال، أن يتفقد آثار ومفاعيل هذا الخطاب في مدونة الفن الحديث، وليس التجريدي فقط، بما فيه مدونة الفيلسوف الفرنسي جورج باتاي وشاكر حسن آل سعيد بدوره.

يعاود باتاي (1897-1962) الكلام عن "الصلة" بين "التجربة الروحية" و"التجربة الجمالية"؛ وهو بدوره، بعد كاندينسكي، ينتقل للحديث عن جمالية "داخلية"، التي قد تكون تعبيرًا أو تجليًّا لما قاله كاندينسكي عن "الضرورة". يكتب باتاي : "أرى إلى "التجربة الداخلية" ما يُطلقون عليه عادة "التجربة النسكية" (الصوفية في سياق الكتابة العربية)". بل يشدد التمييز إذ يبتعد عن التجربة العائدة إلى المعتقد الديني صوب تجربة أخرى، "عارية، حرة من دون قيود، بل حتى من دون أصل، ولأي معتقد ديني كان" . كما يكتب : "أردتُ أن أتوجه بالتجربة إلى حيث تمضي، لا أن أتوجه بها إلى نهاية معطاة مسبقًا" (م. ن.، الصفحة نفسها).

يتحدث عن تجربة أخرى، إذًا، لا يقوى فيها المتحدث على القول : "لقد رأيتُ هذا، وما رأيتُه هو هذا"؛ ولا يمكنه القول : "لقد رأيت الله، المطلق أو لبّ العوالم"؛ ما يقوى على قوله هو أن ما رآه لا يتعين في المتعارف عليه، كما أن الله والمطلق ولبَّ العوالم ليست سوى قضايا في التفاهم البشري.

هكذا يستحدث عن "المجهول"؛ و"هذا القِسم من المجهول هو ما يمحض تجربة الله – أو الشعرية – قوتَها. إلا أن المجهول يشترط في النهاية أمبراطوريةً من دون قسمة مع أحد" (ص17). ذلك أنه يميز بين تجربة الله وتجربة "المجهول" : في التجربة الأولى نستشعر "انفعالًا عميقًا"، متأتيًّا من "أعماق الطفولة"، فيما "يُبقينا المجهول، على العكس من ذلك، باردين، فلا نحبه، قبل أن يقلب فينا كل شيء مثل ريح عنيفة" (ص 17).

يميز باتاي، إذًا، بين "التصوف" (الديني حصرًا) وبين "الشعري" (أو "المجهول"، أو غير المعلوم بصورة مسبقة، بمعنى ما). كما يكتب : "لو "أقلد" المعرفة المطلقة، أكون، أنا نفسي، اللهَ بالضرورة (ففي النظام الكلي، لا توجد، حتى في الله، معرفة أبعد من المعرفة المطلقة)" (ص 127). ويكتب كذلك : "هو أن ألعب (لعبة) الإنسان المخمور، الذي يتقدم خبط عشواء، والذي يُمسك، شيئًا فشيئًا، بشمعته من أجل نفسه، وينفخ عليها، صارخًا من الخوف، والذي يخال نفسه الليل، في نهاية المطاف".

في كلام باتاي ترجيعات، استعادات، لخطاب قديم ،سابق، في تجارب النسك والتعبد الإلهي، وفي التصوف الإسلامي أيضًا. إلا أنه استعادات بعد أن جرى تحويلها لصالح تجربة "داخلية"، لصالح إبداعية باتت تتعين في الإنساني : بين الكاتب ونفسه، وبينه وبين غيره. ومعه يتوجب طرحُ السؤال : أفي ما قام به آل سعيد وغيره في السياق العربي ما يلاقي خطاب كاندينسكي وباتاي ؟

آل سعيد يستعيد بدوره خطابًا قديمًا، ولكن بطريقة مغايرة لما أجراه هذا الخطاب الأوروبي المذكور : كاندينسكي مثل باتاي يُسقطان الخطاب القديم، حتى إن الأول منهما بات يجعل "القبيح" جميلًا (ما لم يكن معمولًا به في الجمالية الكلاسيكية)، إذ إن جمال اللوحة بات يتأتى من اجتماع عناصرها البنائية، لا من تناسب مع موضوعها أبدًا. عدا أن هذا الخطاب بات "يُعلي" (حتى لا أقول : "يُصعِّد") من الجمالية التي يبنيها، الموكولة إلى "الفنان" لا إلى غيره، حيث إن "الفنان الحديث" بات كناية عن "الفن الحديث" نفسه.

هذا الاحتفاء بالذات، بصنيعها، الذي لا يعدو كونه – في جوانب منه – إعلاءً "تسويقيًّا" لما يمكن تسميته بـ"الماركة التجارية" المسجلة في توقيع الفنان، يلتقي جزئيًّا بخطاب آل سعيد وبفنه. يستعيد خطابًا من الماضي، ولكن كمن يستدرك، كمن يصحح خطاه، أي بعد تعثر وارتباك. فالعودة إلى خطاب التصوف تبدو مثل حماية مستلحقة بمعنيَين : حماية الذات في عيشها الوجودي، وحماية الفن من عثرات أو شطط سابقّين. إلا أن جلاء هذه المسألة يحتاج إلى مزيد من الفحص لخطاب التصوف، قبل فحص استفادة آل سعيد وغيره منه.

بين "التذوق" و"التجريب"

التوقف عند خطاب التصوف يطلبُ فحص ما فيه، وفي التجارب والسلوكات الموصولة به، طالبين من ذلك طرح أسئلة باتت لازمة، ما ينطلق من السؤال الابتدائي : أفي خطاب التصوف ونتاجه ما "يعيق" أو "ينمِّي" بناء خطاب حديث عربي حول الفن وممارسته ؟

وجدتُ في مفهوم أول – "الذوق" و"التذوق" في الخطاب القديم – ما يساعد في استبيان المسألة المطروحة. ولو استعدتُ، في أكثر من معجم عربي قديم، معاني ودلالات مشتقة حول : ذوق، لوجدتُ أنها تتراوح بين الحسي والثقافي، وبين التجريب والخبرة والحُكم الجمالي. فإذا كانت جذور اللفظ تدور حول "اختبار الشيء" لجهة طعمه، فإن هذا المعنى ينتقل ويبلغ تعيينات مجازية : "ذوق : الذال والواو والقاف أصل واحد، وهو اختبار الشيء من جهة تطعُّم، ثم يشتق منه مجازًا (...)؛ وفي كتاب الخليل : كلُّ ما نزل بإنسان من مكروه فقد ذاقه" أي أنه يقع في كل ما يصيب الإنسان، ويذوقُه، سواء أكان طيِّبًا أم مكروهًا. فقد ورد في "أساس البلاغة" التعريف المعجمي التالي : "ذقت الطعام، وتذوقته شيئًا بعد شيء، وهو مر المذاق. ومن المجاز : ذقت فلانًا، وذقت ما عنده (...)، وهو حسن الذوق للشعر إذا كان مطبوعًا عليه، وما ذقت اليوم في عيني نومًا. وذاق القوس : تعرّفها ينظر ما مقدار إعطائها". يتبين، إذًا، أن المعاني والدلالات توسعت، وباتت مفهومًا جامعًا وعالي الحمولات إذ يصيب "طعم" ما يذوقه الإنسان بلسانه، وبكفاءته الثقافية، إذ يبلغ التذوقُ الشعرَ نفسه. وهو ما يجده الدارس مجتمعًا في تعريفات "لسان العرب" : "الذوق مصدر ذاق الشيء (...)، والمذاق : طعم الشيء، والذواق : هو المأكول والمشروب (...)، ذقت فلانًا وذقت ما عنده، أي خبرته، وكذلك ما نزل بالإنسان من مكروه فقد ذاقه، وأمرٌ مستذاق، أي : مجرَّب معلوم، والذوق يكون في ما يُكره ويُحمد" .

إذا كان اللفظ ورد أكثر من ستين مرة في القرآن الكريم، ومرات كثيرة في الأحاديث النبوية، فإن في إمكان الدارس أن يلاحظ، في متون أخرى، ورود تعريفات مشتقة من اللفظ عينه، وتفيد عن معان ودلالات مستحدَثة، ما يجد مرتكزاته في الخطاب الفلسفي والكلامي والصوفي : يتحدث الجرجاني، في "دلائل الإعجاز"، عن "أهل الذوق والمعرفة" وهو ما يؤكده ابن الأثير في مقدمة كتابه : "واعلمْ – أيها الناظر إلى كتابي – أن مدار علم البيان على حاكم الذوق السليم، الذي هو أنفع من ذوق التعليم" ، فيما يشير ابن خلدون، في "المقدمة"، إلى "التذوق" بوصفه "حصول ملكة البلاغة للسان".

إلا أن هناك توسعًا مزيدًا أصاب هذا اللفظ ومشتقاته، وظهر في خطاب المتصوفة : يرِد في "تاج العروس" التعريف التالي : "الذوق عند العارفين : منزلة من منازل السالكين أثبت وأرسخ من كل منزلة"  فـ"التذوق"، لدى المتصوفة، عبارة عن علوم إلهية تُدرك قلبيًّا عن طريق الذوق والكشف، لا تعلُّمًا أو نقلًا من كتاب، أو سماعًا من أحد. يكتب الإمام القشيري : "ومن جملة ما يجري في كلامهم : الذوق، والشرب، ويعبرون بذلك عما يجدونه من ثمرات التجليب، ونتائج الكشوفات، وبوادِهِ الواردات. وأول ذلك : الذوق، ثم الشرب، ثم الري. فصفاء معاملاتهم يوجب لهم ذوق المعاني، ووفاء منازلاتهم يوجب لهم الشرب، ودوام مواصلاتهم يقتضي لهم الري، فصاحب الذوق متساكر، وصاحب الشرب سكران، وصاحب الري صاح". كما يعرف عبد الرزاق القاشاني "الذوق" بالقول : "هو أول درجات شهود الحق بالحق في أثناء البوارق المتوالية عند أدنى لبث من التجلي البرقي، فإذا زاد وبلغ أوسط مقام الشهود سمي شربًا، وإذا بلغ النهاية سمي ريًّا، وذلك بحسب صفاء السر عن لحظ الغير" . أما ابن عربي فيرى "الذوق" بوصفه علمًا إلهيًّا : "العلم الذوقي : علم نتائج المعاملات والأسرار، وهو نور يقذفه الله تعالى في قلبك" . ويضيف : "إن الذوق عند القوم أول مبادئ التجلي، وهو حال يفجأ العبد في قلبه، فإن أقام نفسين فصاعدًا كان شربًا، وهل بَعْدُ هذا الشرب ريٌّ أم لا ؟ فذوقهم في ذلك مختلف" (م. ن.، ص 106). أما الغزالي فيقول : "انظرْ إلى ذوق الشعر كيف يختص به قوم من الناس، وهو نوع إحساس وإدراك، ويُحرم عند بعضهم، حتى لا تتميز عندهم الألحان الموزونة من المنزحفة. وانظرْ كيف عظمت قوة الذوق في طائفة حتى استخرجوا بها الموسيقى والأغاني والأوتار (...). ولو اجتمع العقلاء كلهم من أرباب الذوق على تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا عليه"  كما يقول : "واعلمْ أن بعض مسائلك التي سألتني عنها لا يستقيم جوابها بالكتابة، والقول إن تبلغ تلك الحالة تعرف ما هي، وإلا فعلمها من المستحيلات لأنها ذوقية، وكل ما يكون ذوقيًّا لا يستقيم وصفها بالقول، كحلاوة الحلو ومرارة المر، لا يعرف إلا بالذوق"؛ بل يشبهها الغزالي بـ"لذة المجامعة"، التي لا تتعين في قول وكتابة لأنها "لذة ذوقية" .

يعتمد الصوفية على "الكشف" الذي به يعرف الصوفي الحقائق الغيبية التي يعجز عن إدراكها النظر والفكر، فيكتب الغزالي : "إن جلاء القلب وإبصاره يحصل بالذكر، وإنه لا يتمكن منه إلا الذين اتقوا. فالتقوى باب الذكر، والذكر باب الكشف، والكشف باب الفوز الأكبر، وهو الفوز بلقاء الله تعالى" ("إحياء علوم الدين"، ج 3، ص 11). كما يكتب ابن عربي : "إن في عباده من حُرم الكشف والإيمان – وهم العقلاء عبيد الأفكار والواقفون مع الاعتبار – فجاوزوا من الظاهر إلى الباطن، مفارقين الظاهر، فعبروا عنه إذ لم يكونوا أهل كشف ولا إيمان لما حجب الله أعينهم عن مشاهدة ما هي عليه الموجودات في أنفسها (...). وأما المؤمنون الصادقون (...) فعبروا بالظاهر معهم، لا من الظاهر إلى الباطن، وبالحرف عينه إلى المعنى وما عبروا عنه، فرأوا الأمور بالعينين (أي بالظاهر والباطن)" (الفتوحات المكية..."، ج 3، ص 257).